- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الدستور برلماني والممارسة رئاسية: أزمة الحكم في العراق

بقلم: علي مبارك
في خضم تعطل جلسات مجلس النواب العراقي وتبادل الاتهامات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، يتجدد الجدل حول طبيعة النظام السياسي في العراق: هل هو برلماني كما ينص الدستور، أم رئاسي في ممارساته الفعلية؟ وهل البرلمان هو السلطة الأعلى فعلًا، أم أن الحكومة أصبحت هي اللاعب الأقوى على الأرض؟
بحسب الدستور العراقي لعام 2005، العراق يُدار وفق نظام برلماني اتحادي، أي أن السلطة التنفيذية تستمد شرعيتها من السلطة التشريعية، ويُفترض أن البرلمان هو مصدر السلطة وصاحب الكلمة الفصل في التشريع والمحاسبة والرقابة. لكن واقع الحال يروي قصة مختلفة، حيث تتآكل صلاحيات البرلمان لصالح سلطة تنفيذية آخذة في الاتساع.
وفي هذا السياق، تُوجَّه أصابع الاتهام إلى الحكومة باعتبارها أحد الأسباب الأساسية في تعطيل انعقاد جلسات البرلمان. فبحسب النائب ماجد شنكالي، رئيس لجنة الصحة والبيئة، فإن ما يحدث ليس مجرد خلل عابر، بل نتيجة رغبة واضحة من أطراف موالية للحكومة في تجميد البرلمان. إذ كتب في تدوينة نشرها على حسابه الرسمي في فيسبوك:
“البرلمان متوقف لأن أطراف مؤيدة لرئيس الحكومة تخشى تعديل قانون الانتخابات، وكتلة سنية كبيرة تقاطع لإثبات أن البرلمان انتهى بإقالة رئيسه السابق، بينما أغلب النواب مشغولين بالدعاية الانتخابية. اللجان تعمل، لكن الجلسات لا تُعقد، والتسريبات أهم من الاقتصاد ومطالب الخريجين. عملياً، البرلمان ميت”.
لكن من المهم التوضيح أن الحكومة، من الناحية الدستورية، لا تمتلك صلاحية منع مجلس النواب من عقد جلساته، فالبرلمان هيئة مستقلة تملك تنظيم أعمالها وفق النظام الداخلي والدستور. ومع ذلك، الواقع السياسي في العراق يُدار عبر شبكة اتفاقات فوقية بين قادة الكتل السياسية، والقرارات الجوهرية لا تُتخذ داخل مؤسسات الدولة، بل تُحسم في غرف مغلقة بين عدد محدود من القادة السياسيين، لا يتجاوز عددهم عشرة في المشهد السياسي العراقي.
وهنا يتحول البرلمان من مؤسسة دستورية تمثل الشعب إلى رهينة لهذه التفاهمات السياسية، حيث يُعطَّل انعقاده أو يُفعَّل وفقًا لمصالح القادة، لا وفقًا لحاجة البلد. إن سيطرة هذا “النادي السياسي الضيق” على القرار، يجعل من السلطة التشريعية أداة تفاوض، لا سلطة رقابة وتشريع مستقلة.
السؤال الجوهري إذًا: من يُعطل من؟
هل هي الحكومة التي تستفيد من الفراغ التشريعي وتدفع باتجاه استمراره، أم البرلمان الذي فشل في تنظيم نفسه وأداء مهامه؟ الواقع يشير إلى وجود تواطؤ مزدوج؛ فبينما تعمد بعض القوى الحكومية إلى تجميد العمل التشريعي خدمة لمصالحها، يتهرب العديد من النواب من مسؤولياتهم وينشغلون بحملاتهم الدعائية أو صراعاتهم السياسية.
إن استمرار هذا الخلل يُنذر بتحول النظام السياسي في العراق من برلماني شكلي إلى رئاسي فعلي، وهو أمر خطير على مستقبل التوازن بين السلطات. فغياب البرلمان كمؤسسة رقابية وتشريعية فاعلة يعني غياب التوازن، وفتح الباب أمام التفرد بالسلطة.
الحل لا يكمن فقط في تعديل النظام السياسي – كما يدعو بعضهم – بل في تفعيل أدوات النظام البرلماني القائم، بإعادة الهيبة إلى البرلمان، وتحديد جدول زمني ملزم لعقد الجلسات، وضبط علاقة السلطات وفقًا للدستور لا وفقًا للمصالح الحزبية أو تكتيكات السلطة.
فإذا كنا نؤمن حقًا أن الشعب هو مصدر السلطات، فلا بد أن يعود البرلمان ليكون صوته الحقيقي، لا مجرد غرفة صدى لصراعات الزعامات السياسية، ولا رهينة بيد من يخشى أن تُفتح أبواب المساءلة.
ولكن: هل ما تحقق حتى الآن يعكس عملًا تشريعيًا ورقابيًا حقيقيًا؟
ففي الوقت الذي عُدِّل فيه قانون العفو العام وقانون الأحوال الشخصية العراقي خلال الجلسة نفسها، بدا واضحًا أن جلسات البرلمان تُعقد فقط حين تتقاطع مصالح الكتل السياسية الكبرى. وهذا يطرح تساؤلات حقيقية: هل أصبح مجلس النواب مجرد أداة لتمرير قوانين تخدم أولويات الأطراف النافذة؟ وهل يُختزل دوره في المصادقة على الحكومة والموازنة، بينما تُهمّش وظيفته الرقابية؟
إن عمل مجلس النواب – كما ينص الدستور – تشريعي ورقابي في آنٍ واحد، ومهمته لا تنحصر في التصويت بل تمتد إلى مراقبة أداء الحكومة، ومحاسبة المقصرين، وتمثيل مصالح المواطنين. وإذا تعطل هذا الدور الرقابي، فإن التوازن بين السلطات ينهار، وتُفتح الأبواب أمام هيمنة السلطة التنفيذية وتغوّلها.
إذا كان البرلمان لا ينعقد إلا بقرار من الزعامات السياسية، ولا يُفعل إلا لتمرير قوانين متفق عليها سلفًا، فإننا أمام نظام برلماني مُفرغ من جوهره، تُدار فيه الدولة باتفاقات فوق دستورية لا تعكس إرادة الناخبين.
أقرأ ايضاً
- العراقي الكاردينال ساكو لمنصب قداسة البابا
- الاحتفال بالجلاد: كيف تُكرَّم الجريمة في العراق؟
- التجنس بالاستثمار وموقف المشرع العراقي