- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء السادس

بقلم: نزار حيدر
{وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِۦ ۖ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَسْـَٔلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱلَّٰتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.
إِنَّ من أَقسى الظُّلمِ على المرءِ وأَكثرهُ إِيلاماً عندما يتعرَّض للتُّهمِ الظَّالِمة وليسَ بيدهِ أَن يرُدَّ عليها أَو يفنِّدها في وقتِها لأَيِّ سببٍ من الأَسبابِ فيضطرَّ للتَّغاضي عنها إِلى حينٍ قد يحينُ وقتهُ وقد لا يحينُ فيذهبُ بها إِلى قبرهِ!.
وفي قصَّةِ نبيَّ الله يوسُف (ع) صورةٌ واضحةٌ لهذهِ الحالةِ التي يمرُّ بها المُصلحُونَ في مُجتمعاتهِم.
والتُّهمُ التي تعرَّضَ لها (ع) كانت أَكثرُ إِيلاماً حتَّى من التُّهم الخطيرةِ والظَّالمةِ التي تعرَّضت لها العذراءُ البتُول مَريم بنتَ عِمران (ع) لأَنَّ النبيَّ (ع) لم يكُن يمتلِك أَيَّ أَداةٍ لشرحِ التُّهم والردِّ عليها وتفنيدِها أَمَّا العَذراء فلقد منحَها الله تعالى الوَسيلة الغَيبيَّة للردِّ الفَوري على التُّهمةِ التي تعرَّضت لها {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا* يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا* فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا* قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا* وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا* وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا}.
أَمَّا يوسُف (ع) فما كانَ منهُ إِلِّا أَن {قَالُوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ۚ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ۚ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا ۖ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}.
فلم يشأ أَن يُدافع عن نفسهِ لأَنَّهُ لم يكُن يمتلك الأَدَوات والبراهين والإِثباتات الكافِية لذلكَ، ولهذا السَّبب كانَ يدفع ثمَن كُلَّ تُهمةٍ غالياً وكانَ آخرَها قبلَ أَن يتبوَّأ منصباً في الدَّولةِ الجديدةِ تُهمة التحرُّش الجنسي بزوجةِ العزيزِ في قصرِها وهوَ عبدٌ مملوكٌ يعملُ في خدمتِها.
وعندما تدخَّلَ الغيبُ للدِّفاعِ عنهُ {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ* وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ومعَ هذا الدَّليلُ المنطقيُّ القاطِعُ لم ينفعهُ في شيءٍ لأَنَّها سيِّدةُ القصرِ وهوَ عبدٌ مملوكٌ فكانَ أَن تحمَّلَ عناء السِّجن مدَّة [٧] سنواتٍ للتستُّرِ على فضيحةِ القصرِ!.
كذلكَ فإِنَّ ما آلمَ يوسُف (ع) أَنَّهُ تعرَّض للتُّهمِ من قبَلِ أَقربِ النَّاسِ إِليهِ [أُخوتهُ] وكذلكَ من قِبلِ أَبعدِ النَّاسِ إِليهِ {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ}.
السُّؤَال الذي يطرحُ نفسهُ هُنا هوَ؛ هل ينبغي على المظلُومِ المتَّهم ظُلماً وعُدواناً أَن يتجاهلَ حقَّهُ في ردِّ الشُّبهةِ وإِسقاطِها أَبداً دائماً وفَوراً؟! أَم ماذا؟!.
إِنَّ تعرُّض الإِنسان للتُّهمِ الباطِلةِ على نَوعَينِ:
- تارةً تسقطُ بتاريخهِ النَّظيفِ والنَّزيهِ فهوَ ليسَ بحاجةٍ إِلى أَن يُدافعَ عن نفسهِ وإِنَّما ينبري لذلكَ تاريخهُ وماضيه وسلوكهُ الحاضِر {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} ولذلكَ ترى أَنَّ النَّاسَ ينبرُونَ للدِّفاعِ عنهُ وردِّ الشُّبهاتِ والتُّهمِ التي يتعرَّض لها، وهيَ مسؤُوليَّةٌ شرعيَّةٌ وأَخلاقيَّةٌ يلزَم أَن يتحمَّلها المُجتمع بإِزاء مَن يضحِّي من أَجلهِم ويعمَل على توعيتهِم ورفعِ الظُّلمِ عنهُم والذي يتعرَّضُونَ لهُ على يدِ الحاكمِ الظاَّلمِ وجلاوِزتهِ، فلا ينبغي للمُجتمعِ أَن يتخلَّى عن المُصلحِينَ عندَ أَوَّلِ تُهمةٍ يتعرَّض لها أَو ينشرَها الذُّباب الأَليكتروني، فهذهِ الحالةُ نُقصانُ حظٍّ!.
- تارةً لم يجِدُ المرءُ بُدّاً من الصَّبرِ على ما يتعرَّض لهُ من تُهمٍ وافراءاتٍ باطلةٍ، والصَّبرُ هُنا نَوعٌ من أَنواع التَّجاهل وهوَ مطلوبٌ بالضَّرورة إِذا كانَ الإِنشغالُ بالردِّ عليها عبثٌ لا طائِلَ من ورائهِ ولذلكَ قالَ الشَّاعرُ؛
لَو كُلُّ كَلبٍ عَوى ألقَمْتَهُ حَجَراً لأَصبحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بدينارِ
كذلكَ فإِنَّ الظُّلم الذي يتعرَّض لهُ صاحب الرِّسالة على نَوعَينِ؛ الأَوَّل هوَ الظُّلم الشَّخصي والثَّاني هوَ الظُّلم العام، ظُلم المُجتمع.
أَمَّا الأَوَّل فيمكِنهُ أَن يصبرَ عليهِ ويتجاوزهُ إِلى حينٍ، من دونِ أَن يعني ذلكَ تنازلهُ عنهُ للأَبد، خاصَّةً إِذا كانت التُّهمةُ خطيرةً، وإِنَّما ينتظرُ الفُرصةَ السَّانِحةَ ويترقَّب الوَقت المُناسب، كما فعلَ نبيَّ الله يوسُف (ع) فهوَ طالبَ بحقِّهِ الشَّخصي [تبرِئتهُ من تُهمةِ التحرُّشِ الجنسي] في وقتٍ كانَ الملكُ بأَشدِّ الحاجةِ إِليهِ ليُفسِّرَ رُؤياهُ ولذلكَ لم يكُن بوسعهِ تجاهُلَ طلبِ يوسُف (ع) مهما كانَ الثَّمنُ [فضيحةُ القصرِ على رؤُوسِ الأَشهادِ] ولذلكَ بادرَ الملِكُ فوراً لتشكيلِ لجنةٍ خاصَّةٍ للتَّحقيقِ في التُّهمةِ وإِعلانِ النَّتائج بلا تأخيرٍ {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ* قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.
وإِنَّما أَصرَّ يوسُف (ع) على كشفِ الحقائِقِ وتبرِئةِ نفسهِ وردِّ الإِعتبارِ لهُ لأَنَّهُ كانَ في طريقهِ لأَن يتبوَّأَ موقِعاً رسميّاً مُهمّاً ما كانَ ينبغي أَن يتصدَّى لهُ وهوَ مُتَّهمٌ في جِنحَةٍ أَخلاقيَّةٍ خطيرةٍ، خاصَّةً وفي الدَّولةِ مُتربِّصُونَ سيُوظِّفُونَ ضدَّهُ الزَّلَّاتَ عندما تتضرَّر مصالِحهُم بسياساتهِ ونهجهِ الجديدِ، وفيهِم سياسيُّون وقادة كِبار و [عُلماء وفُقهاء ورِجالُ دينٍ] فهؤُلاء لا يرحمُونَ أَحداً يقِفُ في طريقِ مصالحهِم وإِمبراطوريَّاتهِم الخاصَّة ولذلكَ هوَ عرضَ نفسهُ على [النَّزاهةِ] لثقتهِ بنفسهِ ويقينهِ بطهارتهِ وبراءتِهِ ثُمَّ طلبَ من أَعلى مسؤُولٍ في السُّلطةِ أَن يَقفَ على الحقيقةِ قبلَ أَن يخطُو الخُطوةَ التَّالية، حتَّى لا يمنحَ أَحدٌ من الفاسدِينَ فُرصةً لتوظيفِ شيءٍ ضدَّهُ فيُشوِّشُوا على الرَّأي العام ويُعرقِلوا مشرُوعهُ الإِصلاحي، فالمُتَّهَمُ يفشَل في الإِصلاحِ والتَّغييرِ خاصَّةً في مُجتمعٍ تنتشِرُ فيهِ الظَّاهرة التي يُحدِّثنا عنها القُرآن الكريم بقَولهِ {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ۚ}.
لقد كانت فُرصةً ثمينةً قد لا تتكرَّر فإِذا ضاعَت ضاعَت معها الحقِيقة.
أقرأ ايضاً
- أمثلة استغلال الديمقراطية.. توجه العراق نحو الليبرالية الجديدة - الجزء الثامن
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء الثلاثون والأخير
- أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ - السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة - الجزء التاسع والعشرون