
بقلم: علي الشرع
أهمية المال في تسيير شؤون الحياة امر لا جدال فيها. وقد أكد القرآن الكريم على هذه الأهمية، اذ نهى الله تعالى ان توضع الأموال بيد السفهاء خشية تبديدها، وما يسببه ذلك من احتمال تعرض صاحب المال الى العوز، وهدر كرامته للحصول على لقمة العيش الضرورية لبقائه حياً، وهوما يجسده قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل الله لكم قياماً). وهذا التأكيد القرآني يزيل اللبس الذي من الممكن ان يرد على فكر البعض من ان دعوة القرآن والإسلام الى التركيز على الاخرة يعني الحث على عدم الاهتمام بالمال الذي يحفظ كرامة الانسان في الدنيا باعتباره مفتاح لنيل كل رغبة. بل ان القرآن دعا الى ابعد من هذا، حيث حث على عدم تضييع المال من خلال الامتناع عن الاسراف والتبذير وهو ما يعني بالملازمة أنه يدعو الى تنمية المال، لكن ليس المال الذي يكون هدفاً اساسياً في تخطيط حياة الانسان، كلا ليس هذا. وهذا الحرص القرآني على الاهتمام بالمال هو من اجل حفظ كرامة الانسان، وهو ما يمثل المعادلة الاصلية التي تليق بالإنسان كأنسان، وتعبر عن انسانيته وتميزه عن الحيوان الجائع الذي لا يبالي بالضرب من اجل الحصول على باقة من العلف.
ولكن هناك معادلة معكوسة تطفو دائما على السطح، وهي ليست بجديدة، ولكن خطورتها انها تحولت الى ثقافة صارت تتغلل في صفوفنا على شكل موجة هادرة منتشرة على نطاق واسع بين الناس بحيث يقع في فخّها اعداد كبيرة يومياً الا وهي: تضحية الانسان بكرامته من اجل كسب المال. فنلاحظ هجمة غير مسبوقة على كسب المال على حساب كرامة الانسان، وتحولت الى حديث يومي تسمعه أينما تذهب عن كيفية كسب المال من قبل أصحاب المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي المعروفة، هابطاً كان ام غير هابط، او كيفية خداع الجهات المختصة من اجل الحصول على مبلغ الرعاية الاجتماعية لغير المحتاجين لها بل حتى لمن يملك المال، وغيرها من الاعيب يقوم بها الناس في شتى المجالات لهذا الغرض. واكثر ما نسمعه هذه الأيام وبشكل لافت يدور حول كيفية زيادة عدد المتابعين للمحتوى (خاصة الفيديوي) بشتى الطرق، فيتفننون في إهانة انفسهم من اجل جذب اكبر عدد ممكن من المتابعين. فأن ينشر احدهم محتوى تجعل الناس تضحك عليه او تعرض عائلته في البث المباشر على الجمهور ليس مهماً مادام يمنحه تطبيق التك توك اموالاً. ثم جاءت الان الحكومة لتزيد الامر خبالاً وتريد ان تفرض على اصحاب المحتوى ضريبة على هذه الأموال التي لا يمكن وصفها سوى انها أموال سحت نالها بعض اصحاب المحتوى بعرض لحم زوجته وبناته (هؤلاء يحصدون متابعات اكبر من غيرهم، يتابعهم الجاهل والمتعلم والكبير والمراهق) لتمول بها ربما برنامج الرعاية الاجتماعية حتى تجعل المجتمع يسبح في نفس البركة الوسخة النتنة، وستخرج لنا أجيال جديدة تغذت بأموال حرام، وتربت على المحتوى الحرام. وسوف يفلت الزمام عاجلاً وليس اجلاً، وندخل في زمن التيه، لا نحن بقينا على تخلفنا نحافظ فيه على عاداتنا وتقاليدنا حتى يبزغ فجر الخلاص، ولا نحن لحقنا بالأمم المتقدمة.
وفي الوقت الحاضر نتوقع من أي شخص ان يضع كرامته في الدرجة الثانية، ويقدم المال عليها الا من عصم الله، ومعلوم أنه اذا انزلق احدهم الى المقارنة ووضع المال في كفة والمبادئ في كفة، فأن كفة المال هي التي ترجح عادة. وقد تزداد حيرة اذا ما رأيت تلك السيدة التي تمتلك شهادة عالية ووظيفة ثم تقبل على نفسها لتصبح كالجارية عند اقترانها برجل كبير في السن لديه أموال وجاه وتريد ان تستفيد من أمواله وجاهه لتحقق تطلعاتها من خلاله وليبرز اسمها في البلد وتكون من شخصيات الدرجة الأولى في المجتمع. ولكن المشكلة ان مثل هذا الرجل العجوز لا يمكن ان يقوم بوظائفه الزوجية الأساسية سوى توفير الأموال لها، مضحية بأهم طور من اطوار حياتها في أن تصبح اماً وتستمع بالاولاد، وهو طور يغطي مساحة زمنية واسعة من عمرها (اذا كانت تخرجت عمرها 22 وتزوجت في سن 23، وامتد عمرها الافتراضي الى 100 عام). والسؤال هو لماذا فعلت هذا، ومن اجل ماذا؟ من اجل الاكل والملابس والجاه الذي يزول حالما تصبح امرأة مسنة، في حين ان دخولها في هذه الصفقة الخاسرة سيكلفها ثمنا غاليا فوق كرامتها -التي تنازلت عنها لتصبح جارية- وهي عدم إمكانية التراجع منها لتعوض ما فقدته حيث يكون حينها قد فاتها قطار الانجاب. فكيف نبرر صفقة مثل هذه لسيدة قد ضحت بكرامتها ومتعتها الحقيقية كأمرأة من اجل شيء هو في يديها وغير محتاجة له لتستجديه من احد، ولم يجبرها أهلها عليه كما يحدث لبعض النساء المظلومات والا لكانت معذورة.
ان طبيعة الانسان تدفعه الى الحفاظ على كرامته ولن يضحي بها مهما كانت الأسباب، والحفاظ على هذه الكرامة هي من تصنع شخصية الانسان. ولكن كيف يمكن تفسير هذه الموجة المادية التي تهدر فيها كرامة الانسان؟
السبب الأول هو الابتعاد وعدم الاهتمام بالقيم المسؤولة عن صنع شخصية الانسان. فسلم الأولويات تغير، فصار الشخص يتضعضع من اجل مكاسب عرضية (ملابس واكل وشراب ومنصب ودعم مادي…الخ)، مع ان كل هذه مرتبطة بصحة الانسان وامتداد عمره الزمني، بينما ما يفقده ليس له ثمن واعلى واغلى من أي ثمن. وما يقوله الإمام علي (عليه السلام): من أتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه، وكذا قول الإمام الصادق (عليه السلام): من أتى غنيا فتضعضع له لشئ يصيبه منه ذهب ثلثا دينه، إشارة الى عظم هذه الخسارة التي تقاس بالدين وليس بشيء غيره.
ان علينا العودة الى الجذور وتصحيح المعادلة التي يجب ان يقع على طرفها الايسر (حفظ كرامة الانسان)، بينما يتواجد على طرفها الأيمن (المال)، وليست المعادلة الحالية المعكوسة التي يقع في طرفها الايسر (المال)، وتقع (كرامة الانسان) في طرفها الأيمن. أي ان المال اصبح دالة في كرامة الانسان، كلما تخلى الشخص عن كرامته سيكسب من وراء هذه التضحية المزيد من المال، وفي حين انه من المفترض ان يكسب هذا المال من اجل ان يحافظ على كرامته، اذا به يتخلى بسهوله ومن دون تأمل عن كرامته من اجل كسب المال، وهو امر غريب، وفي غاية الغرابة، ولا يمكن ان يقبله عاقل. ان استمرار هذه المعادلة المعكوسة هي المهيمنة في حياتنا هو عامل خطر يهدد وجودنا، فاعتبروا يا اولي الالباب.
أقرأ ايضاً
- التحقيق المالي الموازي (الاهمية - التقنيات - العقـبات)
- بعثة النبي محمد (ص) لسعادة الإنسانيَّة ودوامها
- عفوٌ .. عن ناهبي المال العام؟