- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الخطاب السياسي بين الكسب الانتخابي ومنطق الدولة

بقلم: علي مبارك
بعد أكثر من عقدين على تغيير النظام السياسي في العراق، لا تزال معظم الأحزاب السياسية عاجزة عن التحوّل من كيانات انتخابية مؤقتة إلى مؤسسات سياسية قادرة على إنتاج خطاب دولة وسلوك دولة، يتناغم مع ضرورات الحكم وموازين القوى ومحددات السيادة والعلاقات الدولية.
إن منطق الدولة يفرض على القوى السياسية أن تُنتج خطابًا عقلانيًا ومسؤولًا، يراعي مصالح الدولة العليا، ويفهم طبيعة المجتمع الدولي، ويوازن بين الممكن والمطلوب. لكن ما نراه على أرض الواقع هو أن أغلب الأحزاب العراقية تعتمد خطابًا شعبويًا بعيدًا عن الواقع، لا يهدف إلى بناء مشروع سياسي، بل إلى كسب الشارع مؤقتًا في موسم الانتخابات.
يرتكز هذا الخطاب غالبًا على وعود خيالية، من مثل توزيع آلاف الدرجات الوظيفية، ومنح قطع الأراضي، والتأكيد على السيادة المطلقة ورفض أي تدخل خارجي، وتصوير العراق كقوة إقليمية عصية على الضغوط. فعلى سبيل المثال، وعدت بعض الكتل السياسية في انتخابات 2018 بتعيين اغلب الخريجين، وتوزيع الأراضي السكنية في كل محافظة ولكل مواطن، وإنهاء المحاصصة الطائفية والإدارية والتركيز على الكفاءة والنزاهة، وتحقيق التحوّل الإلكتروني في معاملات الدولة وإصلاح النظام المصرفي، وحل أزمات الطاقة والخدمات بشكل سريع. لكن مع وصول هذه القوى إلى السلطة، اصطدمت بواقع اقتصادي مترهل، ومؤسسات تعاني من بطالة مقنّعة، وملفات إدارية وعقارية معقدة لا تُحل بالشعارات أو التصريحات الانتخابية.
لكن المفارقة لا تقف عند السياسيين فحسب، بل تمتد أيضًا إلى الجمهور. فجزء كبير من الناخبين – مدفوعًا بالإحباط أو الحاجة أو اليأس – يتفاعل مع هذا الخطاب الشعبوي، ويمنح صوته بناءً على وعود لا يملك من يمنحها القدرة على تنفيذها. وهكذا، يصبح الخطاب الزائف دائرة مغلقة: السياسي يعد ما لا يستطيع، والجمهور يصدّق ما يريد أن يسمعه.
عند الوصول إلى السلطة، يتبدد هذا الخطاب فجأة، ويبدأ السياسي نفسه بالحديث عن الترهل الوظيفي، وغياب الموارد المالية، وتعقيدات العلاقات الدولية، والحاجة إلى التهدئة والانفتاح والتفاوض. ما يحدث هنا ليس مجرّد تغيّر في الآراء، بل ارتطام مباشر مع منطق الدولة، الذي لا يقبل الخطاب العاطفي ولا المزاجي.
الجمهور من جهته يرى هذا التحوّل في الخطاب على أنه خيانة وكذب، وهو محق من زاوية أخلاقية. لكن من يفهم آليات الحكم يدرك أن الخطأ لا يكمن في تغيير الخطاب بعد الوصول إلى السلطة، بل في الكذب أثناء السعي إليها. فالسياسي الذي يعرف أنه لا يستطيع تنفيذ ما يعد به، ويواصل تكرار تلك الوعود، لا يمارس السياسة بل يمارس الخداع.
ومن هنا، تتحوّل الأحزاب إلى مشاريع انتخابية لا أكثر. فهي تفتقر إلى العمق المؤسساتي، والامتداد المجتمعي الحقيقي، والقدرة على إدارة الدولة بما يتطلبه من انضباط ومرونة ورؤية طويلة الأمد. والنتيجة هي ازدواجية في الخطاب، وانفصام في الأداء، وغياب تام للثقة بين المواطن والدولة.
ما نحتاجه اليوم هو إعادة تأسيس العملية السياسية على أسس جديدة، تنبع من مشاريع حزبية حقيقية تنظر إلى الدولة بمنطق المسؤولية لا بمنطق الصندوق فقط. خطاب يتماهى مع الواقع، يوازن بين الطموح والإمكان، ويجعل من الصدق السياسي اللبنة الأولى في بناء الثقة. فالدولة ليست برنامجًا انتخابيًا، بل مسؤولية تاريخية.
أقرأ ايضاً
- الذكاء الاصطناعي والانتخابات وصناعة القرار الانتخابي
- الغباء السياسي: عندما نختار الخطأ بأعين مفتوحة
- من الركود الى الانتعاش.. كيف يمكن للعراق استغلال طفرة العقارات في اصلاح الحوكمة و الواقع السياسي