- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
حين تُشترى الأصوات.. تُباع الأوطان

بقلم: كريم محسن
في كل مرة تقترب فيها الانتخابات، تتحوّل المدن والقرى العراقية إلى مسرح واسع لعرض الشعارات والوعود، لكن ليس على طريقة البرامج الانتخابية الرصينة، بل على شكل مزاد مفتوح، يتبارى فيه بعض المرشحين على من يمنح أكثر، لا من يفكر ويخطط أفضل. يتعامل البعض مع المواطن وكأنه زبون موسمي، يطرق بابه قبل الاقتراع بيوم، ثم يغلقه لسنوات. فيُباع الصوت مقابل ابتسامة باهتة، أو وعود بالتعيين، أو حقيبة مساعدات غذائية، وكأن ما يُطلب من المواطن ليس مشاركة في تقرير المصير، بل صفقة قصيرة المدى تنتهي بمجرد إغلاق صناديق الاقتراع.
هذا السلوك المهين لا يُنتج ديمقراطية، بل يعمق الزبائنية، ويفتح أبواب السلطة للفاسدين والمناورين. إن تحويل العملية الانتخابية إلى حالة استهلاكية، يُضعف ثقة الناس بالدولة، ويجعل من الوطنية مشروطة بالحاجة لا بالمبدأ. وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه أي أمة تسعى لبناء مستقبل أفضل. فالديمقراطية ليست دكاناً، ولا صناديق الاقتراع هي صناديق تمويل لأصحاب المال السياسي. وما من وطن يمكن أن يُبنى على صفقة، ولا من شعب يُنهض من كبوته بواسطة حفنة من الشعارات.
المشكلة لا تكمن فقط في من يُرشّح نفسه بهذه الطريقة، بل في منظومة متكاملة من الأعراف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سمحت بتحوّل الناخب من مواطن إلى زبون. هذا التحوّل ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج سنوات طويلة من التلاعب بالعقول، ومن استخدام الموارد العامة كوسيلة للضغط السياسي، ومن تغوّل الأحزاب الحاكمة على مفاصل الدولة حتى أصبح الانتماء الحزبي طريقاً للتعيين، والولاء العشائري باباً للتمثيل، والقرابة وسيلة للترقي الوظيفي.
في هذه البيئة المشوّهة، يتحوّل الصوت الانتخابي إلى سلعة قابلة للتفاوض، ويصبح الخطاب السياسي أقرب إلى إعلان تجاري منه إلى برنامج إصلاحي. وبدلاً من أن تُبنى العلاقة بين المرشح والناخب على القيم والرؤية، تُبنى على التسهيلات والهدايا والترضيات. وهكذا تُفرغ الديمقراطية من مضمونها، ويُعاد إنتاج الخراب بوجوه جديدة.
المواطن الذي يبيع صوته مقابل خدمة آنية، قد يعتقد أنه يكسب شيئاً، لكنه في الحقيقة يخسر الكثير. يخسر صوته، ويخسر قدرته على المحاسبة، ويخسر مستقبله ومستقبل أولاده. لأن المرشح الذي يصل عبر شراء الأصوات، لن يشعر بأنه مدين للناس، بل للمال الذي أنفقه. وعندئذ يصبح المنصب وسيلة لتعويض الخسارة، لا وسيلة لخدمة الشعب. وهذا بالضبط ما نشهده في معظم دوائر الدولة التي نخرها الفساد.
الانتخابات يجب أن تكون لحظة وعي جماعي، لا لحظة غفلة فردية. ويجب أن تُمارس كواجب وطني، لا كحاجة يومية تُقضى وتُنسى. فالمواطنة لا تُختصر في يوم الاقتراع، بل تمتد إلى ما بعده، عبر المتابعة والمساءلة والمطالبة بالحقوق. إن التغيير لا يصنعه من يطرق بابك ويمنحك كرتون معونات، بل من يُخاطب عقلك ويطرح عليك مشروعاً متكاملاً لإصلاح ما تَفسد.
لكن حتى يتحقق هذا، لا بد من أن نغيّر نحن – كناخبين – منطق التعامل مع الانتخابات. علينا أن نكفّ عن لعب دور الضحية والضعيف، ونبدأ بلعب دور المواطن الحقيقي الذي يملك قراره. أن نسأل المرشحين لا عن عدد بطانياتهم، بل عن موقفهم من الفساد. لا عن وعودهم بالتوظيف، بل عن خططهم للإصلاح. لا عن خدمات شخصية، بل عن رؤى وطنية.
التحدي الأكبر اليوم هو كيف نعيد الاعتبار للعملية الانتخابية كممارسة ديمقراطية لا كصفقة تجارية. وهذا يتطلب من القوى السياسية الجادة أن ترفض الدخول في منافسة قذرة مع الفاسدين، وأن تتوجه إلى الناس بخطاب عقلاني صادق. ويتطلب من المجتمع المدني أن يلعب دوراً رقابياً وتوعوياً حقيقياً، لا أن يكتفي بالبيانات والشعارات. كما يتطلب من الإعلام أن يتحرّر من المال السياسي، ويعود إلى دوره في كشف الحقيقة لا في تلميع الزيف.
لقد آن الأوان لنُعيد بناء الثقة بين المواطن والصندوق. فالصوت الانتخابي ليس مجرد ورقة، بل هو عقد اجتماعي، وأداة تغيير، وسلاح بيد الشعب إذا أُحسن استخدامه. وآن لنا أن نقولها بوضوح: المواطن ليس زبوناً، والانتخابات ليست سوقاً لبيع الوطن، ولا لعبة لتبديل الوجوه دون تغيير السياسات.
حين يفهم المواطن هذه الحقيقة، وحين تخرج الأغلبية من سطوة الحاجة والخوف والجهل، سيتغيّر المشهد. وسنرى برلماناً لا يمثل العوائل السياسية، بل يمثل الناس بحق. وسنفتح باب الأمل لدولة مدنية ديمقراطية، عادلة، يتساوى فيها الجميع أمام القانون، وتُدار فيها الثروات لصالح الشعب لا لصالح حفنة من المتنفذين.
الطريق ليس سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً. يكفي أن نبدأ من الفكرة: أن نرفض أن نُعامل كزبائن، وأن نُصرّ على أن نُعامل كمواطنين. فالمواطنة ليست منحة تُعطى، بل حق يُنتزع، وكرامة تُصان، وقرار يُمارس. وعندها فقط يمكن أن نقول إننا على الطريق الصحيح نحو التغيير الحقيقي.