
بعد أيام من إعلان الحكومة استخدام الأمانات الضريبية لتغطية رواتب الأشهر الثلاثة المقبلة، أثارت أوساط نيابية واقتصادية جدلا كبيرا حول حقيقة الوضع المالي في العراق، لكن وزارة المالية ومصرف الرافدين الحكومي خرجا بتطمينات حول وجود السيولة المالية وانخفاض العجز في الموازنة.
وفيما قلل خبراء من أهمية تلك “التطمينات”، بسبب حجم الإنفاق المرتفع وانخفاض أسعار النفط، رد مقرب من الحكومة بأنها (أي التطمينات الحكومية) جاءت لمواجهة الشائعات وضبط الرأي العام، مقرا في الوقت ذاته بأنها تأتي في سياق الدعاية الانتخابية “المشروعة”.
وأعلنت وزيرة المالية، طيف سامي، الاثنين الماضي، أن الاقتصاد العراقي سجل العام الماضي، نموا في الناتج المحلي غير النفطي بنسبة 5 في المئة، مشيرة إلى أن عجز الموازنة منخفض، ولا يشكل تهديدا للدين العام.
وتعقيبا على ذلك، يقول الخبير الاقتصادي زياد الهاشمي، إن “تطمينات وزارة المالية لا تعني الكثير، لأنها لا تستطيع تغيير حقيقة اضطرار الوزارة مؤخرا للبحث عن موارد مالية جديدة بطريقة غير مألوفة، سواء من خلال الاستحواذ على الأمانات الضريبية أو بعض الودائع في المصارف الحكومية”.
ويجد الهاشمي، أن “هذه الأساليب في إيجاد الموارد تشكل دلالة واضحة غير قابلة للنفي والتأويل ولا التبرير، فالحكومة تعاني فعليا من عسرة مالية ناتجة عن نقص في السيولة، وبدلا من هذه التطمينات كان من الأجدى التعامل بشفافية مع الجمهور، وإطلاعه على الحقائق كما هي، وعرض خطة الحكومة للتعامل مع أزمة تضخم الإنفاق العام ونقص السيولة”.
كما نفى مصرف الرافدين، من جهته، حصول أزمة سيولة مالية، مؤكدا في بيان: “لسنا مجرد مصرف، بل ذمة وطنية وركيزة سيادية للاقتصاد العراقي، ولا أزمة سيولة، ولا انسحابات طارئة والوضع المالي أفضل من الجيد”، ورفض المصرف “المقارنات المضللة”، مبينا أنه “لا علاقة لنا بانهيارات المصارف في دول أخرى، والودائع مؤمنة وتشغَّل ضمن أدوات مالية منخفضة المخاطر وبعوائد مجزية”.
ويشير الخبير الهاشمي، إلى أن “هذه الطمأنة لن تزيل حالة القلق الموجودة في الشارع العراقي، ولن تعفي مطلقا وزارة المالية من مسؤوليتها الرسمية والاعتبارية في العمل على تطبيق خطة لضبط الإنفاق العام، والذي أدى لهذا العجز المتراكم والنقص الواضح في السيولة”.
وكان مجلس الوزراء، قد قرر في 15 نيسان الماضي، تخويل وزيرة المالية صلاحية سحب مبلغ الأمانات الضريبية التي لم يمضِ عليها خمس سنوات، لتأمين تمويل رواتب موظفي الدولة لشهر نيسان والأشهر اللاحقة.
وواجهت هذه الخطوة انتقادات حادة من مختصين قانونيين، أشاروا إلى أن الأمانات الضريبية لا تُعد من الإيرادات العامة للدولة، إلا بعد مرور خمس سنوات من تاريخ إيداعها دون المطالبة بها، وبالتالي فإن سحبها قبل هذا الموعد يُعد "تصرفا مخالفا للقانون".
كما أثار هذا التخويل الجدل حول هشاشة الواقع الاقتصادي للبلاد، حيث ذكر النائب مصطفى سند، أن “هذه الأموال نفسها التي ارتبطت سابقا بقضية نور زهير”، في إشارة منه إلى الفضيحة المالية السابقة التي اشتهرت إعلاميا تحت اسم “سرقة القرن”.
في المقابل، سعى البنك المركزي العراقي إلى تهدئة المخاوف، وأكد في بيان، أن الوضع المالي للعراق “مستقر”، مشيرا إلى أن احتياطي مصرف الرافدين يتجاوز 8.5 تريليونات دينار (نحو 6.5 مليارات دولار بالسعر الرسمي)، منها أكثر من 4.2 تريليونات دينار احتياطي غير مستخدم، وهو ما اعتُبر مؤشرا على استقرار الوضع المالي، رغم الضجة المثارة.
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي منار العبيدي، أن “هذه التطمينات تحمل أبعادا سياسية أكثر مما هي اقتصادية، وحتى الأمانات الضريبية، ما هي إلا مبالغ لدى الدولة بإمكانها أن تستخدمها لأغراض كالرواتب ومن ثم تعيدها، وهو شيء ليس نادر الحدوث، لكن الجدل أثير حولها هذه المرة بسبب مزامنته حرب الدعاية الانتخابية”.
وبصرف النظر عن الجدل الذي يدخل في حرب الدعاية والتسقيط الانتخابي، يؤكد العبيدي، أن “العراق أمام مشكلة اقتصادية كبيرة بسبب حجم الإنفاق المرتفع قياسا بحجم الإيرادات المنخفض بالتوازي مع هبوط أسعار النفط، وعاجلا أم آجلا سيواجه العراق مشكلات من الصعب أن يجد لها حلولا مباشرة بسبب عدم وجود بديل عن النفط في زيادة الإيرادات”.
ويعد استمرار الدولة العراقية بالاعتماد على النفط كمصدر وحيد للموازنة العامة، يجعل العراق في خطر من الأزمات العالمية التي تحدث بين الحين والآخر لتأثر النفط بها، مما يجعل البلاد تتجه في كل مرة لتغطية العجز عبر الاستدانة من الخارج أو الداخل، وهو بذلك يشير إلى عدم القدرة على إدارة أموال الدولة بشكل فعال، والعجز عن إيجاد حلول تمويلية بديلة.
إلى ذلك، يعقب المحلل السياسي المقرب من رئيس الحكومة عائد الهلالي على التطمينات الحكومية الأخيرة بشأن تأمين رواتب الموظفين، بالقول إن “هذه الأمانات ليست أموالا مجهولة أو مسروقة كما يروّج البعض، بل هي مبالغ مستردة قانونيا للمكلفين تُودع مؤقتا لدى الدولة، ويمكن تدويرها ضمن حسابات الدولة المالية ما دامت تُدار بشفافية وضمن حدود قانونية”.
ويضيف الهلالي، أن “استخدام هذه الأمانات في حالات استثنائية، مثل تأمين الرواتب، لا يُعد بالضرورة فسادا، بل قد يكون أداة لتفادي أزمات سيولة وقتية، خاصة في ظل عدم إقرار موازنة شهرية أو تعثرات في التحويلات المالية من وزارة المالية”.
أما عن توقيت التطمينات، فيرى أن “صدور تصريحات من وزيرة المالية ومصرف الرافدين لا يجب أن يقرأ دائما كإشارة لأزمة، بل يمكن تفسيره في ضوء مواجهة الإشاعات كالتسريبات المتعمدة حول انهيار مرتقب أو أزمة في تأمين الرواتب، قد تؤدي إلى زعزعة الثقة بالمنظومة المالية، والحكومة هنا تتحرك استباقيا لكبح الذعر”.
كما أن هذه التطمينات وفقا للهلالي، “تهدف أيضا لضبط الرأي العام قبيل الانتخابات، فالحكومة تدرك أن الرأي العام هو ساحة الصراع الحقيقية، خاصة في ملف حساس كرواتب الموظفين. والخروج بتصريحات رسمية هدفه إغلاق الباب أمام المزايدات السياسية التي تسعى لتصوير الوضع على أنه انهيار اقتصادي”.
ويقر المحلل السياسي المقرب من رئيس الحكومة، بأن “مثل هذه التطمينات تأتي كدعاية انتخابية، لكنها دعاية مشروعة تقوم بطمأنة الموظفين لا باستغلال ملف الرواتب، بل عبر خطاب عقلاني ومنضبط من وزيرة المالية ومؤسسات مصرفية كبرى، دون وعود مبالغ فيها أو شعارات شعبوية، وبلغة السياسة، كل قرار أو تصريح يحسب انتخابيا، ولكن الفرق هنا أن الحكومة تحاول إظهار القدرة على الإدارة وسط أزمات معقدة، وليس فقط توزيع وعود، وفي بلد مثل العراق، هذا النوع من الإدارة الصامتة يُعد نقطة قوة، لا ضعف”.
ويخلص إلى أن “الحكومة لم تتأخر في الرواتب طوال الفترة الماضية رغم التحديات، لذا فإن تطمينات الحكومة ليست دعاية انتخابية سطحية ولا مجرد ردّ فعل على تشكيك المعارضة، بل تأتي ضمن إدارة سياسية- اقتصادية متزنة تسعى للسيطرة على خطاب الأزمة قبل أن يتم تضخيمه انتخابيا. ومن حق الحكومة أن تستخدم أدوات الاتصال لطمأنة الشارع، بشرط أن تستند إلى أرقام وممارسات شفافة، وهذا ما يبدو أنها تحاول فعله حاليا”.
وتشهد الساحة العراقية مع اقتراب الانتخابات النيابية، صراعا محموما بين الأحزاب هدفه التسقيط السياسي والدعاية الانتخابية، ويبدو أن جداول الموازنة للعام الحالي ستبقى حبيسة رفوف الحكومة، ولن تمر إلى البرلمان، بسبب ما وصفته أوساط سياسية واقتصادية بـ"العام الانتخابي".
المصدر: صحيفة العالم الجديد
أقرأ ايضاً
- سحب "الأمانات الضريبية" لتمويل الرواتب.. فشل في السياسة المالية ينذر بـ"الاقتراض"
- اتفاقية خور عبد الله إلى الواجهة.. "طعون" لدى المحكمة الاتحادية و"حراك" لاستجواب المسؤولين
- 3 تريليون دينار سنويا لتمريره.. استبعاد سياسي لتعديل "سلم الرواتب"