
بقلم: كريم محسن
في قصرٍ مهيب، وعلى طاولة مستديرة تطل على نوافير الرخام وثريات الكريستال، سيجتمع القادة العرب مجددًا في القمة العربية الرابعة والثلاثين. اجتماع جديد، قمة جديدة، خطابات جديدة، لكنها تتشابه جميعها في شيء واحد: أنها لا تغيّر من واقع المواطن العربي شيئًا. ثلاثٌ وثلاثون قمة سبقتها لم تنجح في إيقاف حرب، ولا في رأب صدع، ولا في إنقاذ شعب، ولا حتى في إصدار قرار حقيقي وجد طريقه إلى التنفيذ. تتغير العواصم، وتتنوع عبارات الترحيب، وتعلو الشعارات من قبيل “التضامن”، و”العمل العربي المشترك”، و”دعم القضايا المصيرية”، بينما يبقى المواطن العربي يئن تحت وطأة الفقر، وتردي الخدمات، وسوء النظام الصحي، وانعدام البنى التحتية، وانسداد الأفق.
منذ أول قمة عقدت في أنشاص بمصر عام 1946، والقمم تتوالى، والقرارات تتكدس، والنتائج واحدة: لا تنفيذ، لا التزام، لا أثر ملموس. القمم العربية تحولت تدريجيًا إلى طقوس بروتوكولية، أشبه بمهرجانات موسمية، يُصرف عليها بسخاء منقطع النظير، في حين تعجز المستشفيات في بعض الدول العربية عن توفير الأوكسجين لمرضى الجهاز التنفسي، وتغرق أحياء كاملة بالصرف الصحي، ويُحرم أطفال من التعليم لأن مدارسهم مهدّمة أو خالية من المدرّسين. وفي الوقت الذي تُزيّن فيه القصور لاستضافة الوفود، ينام آلاف المشردين تحت الجسور وفي مخيمات اللجوء، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم وُلدوا في أوطانٍ لا تملك قرارها ولا تعترف بأوجاع ناسها.
خذ مثلًا القضية الفلسطينية، التي كانت ولا تزال “القضية المركزية” للقمم العربية منذ نشأتها. كم قرارًا صدر بشأن دعم المقاومة، وإنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة المستقلة، والقدس عاصمة لها؟ العشرات. ولكن على الأرض، يزداد الاستيطان، وتتوسع جرائم الاحتلال، بينما تسارع بعض الدول إلى التطبيع مع إسرائيل، في تناقض فجّ مع ما يُعلن من على منابر القمم. فلسطين تحولت إلى لافتة سياسية، تُرفع حينًا للتفاوض، وتُخفض حينًا لمجاراة المتغيرات، لكنها لم تكن أبدًا محورًا حقيقيًا للفعل العربي المشترك. ليس لأن القضية تافهة، بل لأن القمم قررت أن تظل تائهة بين الحسابات الضيقة والارتهانات الخارجية.
وإذا ما انتقلنا إلى الدول المنكوبة بالحروب، كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، نجد أن القمم العربية لم تقدّم لها إلا القليل من العبارات الإنشائية، والكثير من التجاهل. العراق، بعد الغزو الأميركي وما تلاه من عنف وتفجيرات واحتلال داعشي، لم يتلق دعمًا عربيًا حقيقيًا يعينه على إعادة الإعمار أو على استعادة دوره العربي. سوريا، التي تحولت إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، ظلت خارج الجامعة لسنوات، وكأن شطبها من المعادلة يوقف نزيف الدم. أما اليمن، فشعبه يموت جوعًا ومرضًا، فيما انقسم الموقف العربي بين أطراف الصراع، ولم تخرج أي قمة بموقف مسؤول يُنهي المأساة.
حتى القمم الاقتصادية، التي كان يُعوّل عليها لتفعيل التكامل العربي وتحقيق التنمية، لم تكن أفضل حالًا. في قمة الكويت 2009، طُرحت مشاريع واعدة كالسوق العربية المشتركة، والأمن الغذائي، وتطوير البنية التحتية، لكن أين تلك المشاريع اليوم؟ لا السوق قامت، ولا الأمن تحقق، بل أصبح العرب من أكثر شعوب العالم استيرادًا لغذائهم، ومن أقلهم استثمارًا في العلم والتكنولوجيا. تُصرف الأموال على المؤتمرات والفنادق الفاخرة، بينما تُغلق المصانع، وتُهمّش الزراعة، وتُختزل التنمية في شعارات لا تُشبع جائعًا ولا تُعلّم طفلًا.
المشكلة ليست في القمم بحد ذاتها، بل في غياب الإرادة السياسية، وفي هيمنة النظم السلطوية على القرار العربي. القمم لا تناقش مشاكل الشعوب بجدية، بل تناقش مصالح الأنظمة. القرارات تُصاغ بطريقة لا تُغضب أحدًا، ولا تُلزم أحدًا. كل شيء يتم بحسابات دقيقة: لا مسّ لما هو حساس، لا كشف للمستور، لا تعرية للخيبات. ولهذا، يشعر المواطن العربي أن هذه الاجتماعات لا تعنيه، ولا تمثله، ولا تعبّر عنه. إنها قمم تعقد باسم الشعوب، لكن الشعوب لا ترى منها سوى صور القادة في الصفوف الأمامية، والابتسامات الصفراء التي تنتهي بانفضاض الجلسة الختامية.
ما ينتظره المواطن العربي ليس معجزة، بل شيء من الواقعية. يريد قمة تعترف بفشل القمم السابقة، لا تتباهى بها. قمة تبدأ بسؤال الذات لا بلوم الآخر. قمة تُنهي لغة الإنشاء، وتبدأ بلغة الإجراء. يريد خريطة طريق حقيقية لتحسين حياته، لتوفير فرص عمل، لتأمين العلاج، لبناء مدارس لائقة. لا يريد خطبًا عن الوحدة العربية، بل أن يرى الكهرباء لا تنقطع، والماء لا يُقطع، والكرامة لا تُسحق.
لقد أصبح الفارق بين ما يُعلن في القمم، وما يُعاش في الواقع، مهينًا. هل يُعقل أن تُعقد قمة تحت شعار “من أجل الإنسان العربي”، فيما الإنسان العربي يُدفن تحت ركام بيته، أو يُنتشل من قوارب الهجرة، أو يُجلد في معتقل لمجرد رأي؟ هل يُعقل أن تناقش القمم “التحول الرقمي”، بينما لا تصل الإنترنت إلى القرى، ويُحرم الأطفال من التعليم الإلكتروني بسبب الفقر؟ هل يُعقل أن تُخصص القمة ساعات للنقاش حول قضايا “الإبداع”، بينما يُطارد المبدعون، وتُقمع الصحافة، ويُضيّق على الحريات؟
المواطن العربي سئم التكرار. لم يعد يثق بالوعود. لم تعد تُقنعه لغة المجاملة السياسية. وإن استمرت القمم على هذا المنوال، فإن بقاءها سيُنظر إليه كعبء لا فائدة منه. إما أن تتحول إلى مؤسسات فاعلة تملك القدرة على التأثير، وإما أن تُعاد هيكلتها بالكامل، لتكون على مستوى التحديات، لا على مقاس الأنظمة. آن الأوان أن تكون القمة مساحة لمصارحة تاريخية، وأن تطرح الأسئلة الحقيقية: لماذا فشلت الجامعة العربية؟ من الذي يعطّل قراراتها؟ من الذي يفرض الصمت على جراحات الشعوب؟
ليس المطلوب معجزات، بل قرارات تخرج من القاعة لتصل إلى المواطن. قرارات لها توقيت زمني، وآلية تنفيذ، ومساءلة حقيقية. فالعبرة ليست بعدد القمم، بل بمدى تأثيرها. وأي قمة لا يسمع المواطن صداها في خبزه اليومي، وصحته، وأمنه، وتعليمه، ليست قمة… بل استعراض جديد على مسرح قديم.
أقرأ ايضاً
- مقايضات قمة بغداد: خور عبد الله وميناء الفاو والشرع وأشياء أخرى
- الانفجار الديموغرافي في العراق
- المافيا الاسيوية والتلاعب بنتائج الكرة الاسيوية