- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
الحج والكعبة ونسبية الخشوع في زمن التواصل الإلكتروني

بقلم: علي الراضي الخفاجي
لاتأتي قدسية الكعبة من جانب رمزي وتشريعي فقط، إنما لها قيمومية تكوينية جعلت من أبينا آدم تقبل توبته فيها، ومنها يتحرك في مسيرة الحياة، وينطلق منها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام حركته التوحيدية الكبرى، ومنها بدأ خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله رسالته الخاتمة بكلمة التوحيد، وخلفه من بعده سبطه الشهيد الإمام الحسين عليه السلام حينما انطلق منها نحو كربلاء ليسجل أروع ملاحم الخلود بدمائه الزكية كي تبقى كلمة الله هي العليا فوق الكلمات والنظم والدساتير، وأما نحن في زمن الانتظار فإننا نسعى لأن نكون من أنصار سليل الأنبياء الإمام المهدي المنتظر حينما ينادي من الكعبة المشرفة ليعلن للعالم ظهوره ومشروعه الإلهي ونكون شهوداً على إقامته لدولة الحق العدل.
يقول تعالى ((جعل اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرام قياماً للنَّاسِ والشَّهرَ الحرامَ والهَدْيَ والقلائد))المائدة/97.
كعب الشيء: مرتكزه، واسم الكعبة مجاز، فربما سميت بذلك لأنَّ مظهرها يشبه مظهر القاعدة، أو لما ورد أنها قاعدة لـ(البيت المعمور) الذي تطوف به الملائكة في السماء مثلما يطوف الحاجُّ في الأرض حول الكعبة، حتى تعبير البيت مجاز، فهو ليس البيت الذي تسكنه، بل هو البيت الذي أراده جلَّ وعلا (قياماً للناس) كي يعبدونه و لا يشركون به شيئاً، وهو بيت حرام له حرمة ترفعه فوق الأغراض السكنية، مما يوجب تنزيهه والطواف حوله والتبرك به والتوجه إليه في العبادات.
وحرمة البيت الحرام ذاتية تعتمد على تفاعل روحي مستقل، فهي غنية عن ما يضيفه الحاجُّ، فهو منْ يستثمر الفرصة للتزوُّد، فما يؤدِّيه من مناسك ماهي إلا ممارسات تعود عليه بالنفع ((ليشهدُوا منافِعَ لهمْ)) الحج/28، منها ما يتعلق بدار الدنيا ومنها للآخرة، وحرمتها كحرمة القرآن والرسول، فإنَّ منْ يقرأ القرآن ويستمع إليه هو من ينتفع به، كما أنَّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قد رفع الله شأنه وأعلا قدره ووجَّه الناس للصلاة عليه فلا يناله شيء مما قيل ويقال في حقِّه، وذكرهُ بالصلاة عليه تضيفُ إلى رصيد المصلي حسنات وبها تعلو درجاته.
فالكعبة بقعة اختارها الله سبحانه وتعالى، وهو منْ خطط لها، لذا يذكر في الروايات أنَّ جبريل عليه السلام قد خطط الكعبة والمسجد الحرام -بأمر الله تعالى- لآدم برجله خطاً في الأرض وقال ( يا آدم هذه الكعبة) ثم خط خطاً آخر وقال (هذا المسجد الحرام). مرآة العقول، 17:12، كما أنَّ هناك روايات تشير إلى أنها نقطة البدء في تكوين الأرض حينما دحاها وبسطها جلَّ وعلا من تحت الماء، فأينما توجهت فإنك تعيش عالماً يفترض أن تميزه عن بقية العوالم التي تتخيلها، والبيئات التي شاهدتها أو عشتها أو مررت بها، ابتداءً من الطواف بالكعبة إلى السعي بين الصفا والمروة إلى زمزم والمشاعر وغير ذلك، وأن تملأ عينيك من مشاهدات وعيِّنات لا تجد لها مثيلاً على وجه الأرض.
وقد ورد أنه لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره الله تعالى (أن يؤذِّنْ في الناس بالحجِّ فقال ياربِّ ما يبلغ صوتي، فقال الله: إذنْ عليك الأذان وعليَّ البلاغ، وارتفع على المقام وهو يومئذ ملصق بالبيت، فارتفع به المقام حتى كان أطول من الجبال، فنادى وأدخل إصبعه في أذنه وأقبل بوجهه شرقاً وغرباً يقول: أيها الناس كُتِبَ عليكم الحجُّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربَّكُمْ، فأجابوهُ من تحت البحور السَّبع، ومن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلها ومن أصلاب الرجال ومن أرحام النساء بالتلبية لبيك اللهمَّ لبيك). تفسير نور الثقلين، 3: 488.
فأيُّ حرمة يحمل البيت العتيق؟
إنَّ مشاهد الحجِّ في الأعوام الأخيرة للأسف الشديد أخذت تشهد ظواهر سلبية تسلب الحاجّ تلك المنافع والكنوز المعنوية التي يضفيها عليه الحجُّ، خصوصاً في زمن التواصل الإلكتروني التي تأخذ منْ يستهويها بعيداً عن الخشوع، كالإفراط بالتصوير، والتباهي بكثرة حجِّه وعدد المرَّات، وكأنَّ الكمُّ دالة على القبول، أو مزاحمة الناس على حصصهم بالحجِّ من خلال الاستثناءات والمجاملات، فلا ينبغي أن يشوب أعمال ومناسك الحجِّ نية تنافي الإخلاص والعبودية لله تعالى، وهو القائل ((وأتمُّوا الحجَّ والعُمْرَةَ لله)) البقرة/196، والتمام كما لايخفى لمعالجة نقصان الأصل وليس لمعالجة الوصف والعوارض، ويحسنُ بنا أن نتأمل في الرواية التي وردتْ في مناقب ابن شهر آشوب، ص/261: (قال أبو بصير للإمام الباقر عليه السلام: ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج! فقال عليه السلام: بل ما أكثر الضجيج وأقلَّ الحجيج).
أقرأ ايضاً
- الكهرباء ..الداء العراقي العضال والمزمن
- Waze الزمن مقابل الجغرافيا
- التقاضي الإلكتروني.. نحو عدالة الذكاء الاصطناعي