- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العقل الصامت والصوت الصاخب: كيف اختُطفت الساحة العراقية من الجهلاء؟

بقلم: كريم محسن
في المشهد العراقي الراهن، لا تحتاج إلى كثير من التأمل لتدرك أن من يصرخ أكثر لا يعني بالضرورة أنه يملك الحقيقة، بل على العكس تماماً، يبدو أن الضجيج بات وسيلة الضعفاء لإخفاء خوائهم، وأن الصمت أصبح تهمة تلصق بكل من يحاول التفكير أو التدبر أو التعبير بعقل. وإذا كانت الصورة الكاريكاتورية التي تظهر أربعة رجال يتناقص صراخهم كلما كبر حجم أدمغتهم مجرد تعبير رمزي، فإنها في العراق تحولت إلى واقع صارخ يتجول بين شاشات التوك شو، وقاعات البرلمان، و”الجروبات” السياسية، وحتى الشارع الشعبي الذي باتت تصنعه الصرخات لا الأفكار.
من يتابع برامج “التوك شو” العراقية يدرك أن المايكروفون لا يُعطى لصاحب الرأي العميق، بل لصاحب الحنجرة الأقوى. تختلط النقاشات بالصراخ، وتتحول المواضيع المعقدة إلى مباريات جدلية رخيصة تُدار بعقلية “من يغلب من؟” لا “من يُقنع من؟”، وكأننا أمام سيرك لفظي لا غاية له سوى استعراض الجهل بأبهى حلله. لا وقت للتحليل، لا مكان للبيانات، لا مساحة للخبرة، فقط جعجعة مستمرة لتدوير الفراغ وإلباسه ثوب الرأي، والمضحك أن الجمهور يصفق، لا لأنه اقتنع، بل لأنه شعر بأن هناك من يشاركه انفعاله وانغلاقه، وهنا تكمن الكارثة.
في السياسة، لا يختلف المشهد كثيراً. البرلمان العراقي صار منذ سنوات مضمارًا للصراخ، لا ميدانًا للتشريع. كل دورة جديدة تأتي بشخصيات صوتها أعلى، وخطابها أكثر غوغائية، لكن عقولها أخف وزنًا من ريشة. يتحدث بعضهم عن الوطنية وكأنها نكتة، وعن الفساد وكأنهم لم يغرفوا منه بأيديهم، يرفعون شعارات الإصلاح في النهار ويوقعون صفقات التخريب في الليل، وعندما تُواجههم الأرقام والوقائع، يعلو صوتهم وتختفي حججهم، تمامًا كما يفعل الطفل الذي لا يعرف كيف يدافع عن نفسه إلا بالصراخ. باتت السياسة في العراق فنًّا من فنون التمثيل الصوتي، لا عمق فيها ولا مشروع، فقط رغبة في البقاء تحت الضوء بأي ثمن.
من أين أتى كل هذا؟ لعلّ السبب الجوهري هو غياب المشروع الفكري الذي يعيد الاعتبار للعقل في زمن الغوغاء. منذ أن تم تفكيك الدولة العراقية بعد 2003 دون بناء مؤسسات حقيقية بديلة، تسللت إلى الفضاء العام شخصيات بلا مؤهلات، تتصدر النقاشات الكبرى وهي لا تملك أدنى أدوات التفكير النقدي أو المعرفة العلمية أو حتى الذوق العام. أصبحت الطائفية والبكائيات والشعارات المعلبة بديلاً عن الرؤية، وتحول المنبر السياسي إلى مسرح لصناعة الكراهية لا لصياغة حلول. وكلما زاد ضجيج الجهلاء، انسحب العقلاء إلى الهامش، بعضهم صمت، وبعضهم غادر، وبعضهم خسر صوته في صحراء اللامعنى.
وإذا كانت المسؤولية الكبرى تقع على القوى السياسية الحاكمة، فإن الإعلام لا يُعفى من الجريمة. فالبرامج التي تُفترض بها أن ترفع الوعي أصبحت منصات لإثارة النعرات، وضيوفها المختارون بدقة ليسوا الأفضل في الاختصاص، بل الأفضل في إثارة الفوضى. الإعلام العراقي بات يطارد “الترند” لا الحقيقة، ويبحث عن “اللقطة” لا التحليل. ولهذا لا عجب أن ترى محللين يجهلون ألف باء السياسة يتحدثون عن ملفات إقليمية معقدة، أو “خبراء” يتحدثون عن الاقتصاد وهم لا يفرقون بين الميزانية والميزان التجاري، والويل لمن يطلب منهم الاستماع، فالصراخ جاهز، والإهانة متاحة، والمعلومة آخر ما يُؤخذ بالحسبان.
في ظل هذه الفوضى، نشأ جيل شاب تتشكل وعيه السياسي من هذا الضجيج، فصار يعتقد أن السياسة هي من يصرخ أكثر، وأن المثقف الذي يتريث في كلامه “بارد”، والمفكر الذي يحلل “معقد”، أما من يشتم ويقاطع ويغضب ويهدد ويقسم بـ”الدم” فهو الزعيم الحق. هكذا تُفرغ السياسة من معناها، وتتحول الدولة إلى ملعب تافه، والسلطة إلى غنيمة بيد من يملك الصوت لا العقل، ومن يملك الولاء لا الكفاءة. وحين تنقلب الموازين بهذا الشكل، فلا تنتظر قانونًا عادلًا، ولا سياسة رشيدة، بل استعد لجولات طويلة من الفوضى المقنّعة بالشعارات.
العقل في العراق ليس فقط مغيّبًا، بل محاصر. كل من يحاول أن يتحدث بلغة المنطق يجد نفسه بين نارين: نار التهميش الإعلامي، ونار التخوين السياسي. ومن المؤلم أن كثيرًا من الأكاديميين والمثقفين قد اختاروا الصمت، إما يأسًا أو خوفًا أو عجزًا عن مجاراة “أبطال الضوضاء”، والنتيجة أن الصوت المسموع اليوم هو صوت الفارغين، والقرار يصاغ في دهاليز الجهل، والمستقبل يُبنى على رمال الوهم.
إن الطريق إلى الخلاص لا يبدأ برفع الصوت، بل بإعلاء العقل. لا يمكن للعراق أن يخرج من مأزقه إذا بقيت الميكروفونات في يد الجهلة، وإذا استمرت الشاشات في تصدير الجهالة باعتبارها بطولة، وإذا ظل الجمهور يصفق للصراخ ظنًا منه أنه وعي. المطلوب اليوم هو ثورة صامتة، ثورة في المعنى، في الفكرة، في الوعي، ثورة تعيد العقل إلى مقدمة الصف، لا إلى الهامش. فالوطن لا يُبنى بالضجيج، بل بالصمت المفكر، والعقل الهادئ، والكلمة التي لا تُقال إلا حين تكون أعمق من الصمت.
أقرأ ايضاً
- العراق بين عقلية الحكم وحكم العقل
- كيف زحفت الحدود الكويتية باتجاه العراق في خور عبد الله
- الاحتفال بالجلاد: كيف تُكرَّم الجريمة في العراق؟