
بقلم: إبراهيم العبادي
سبق انعقاد قمة بغداد اتجاهان أساسيان سيطرا على مجمل النقاش الجاد – خلافًا للنقاشات الهامشية السطحية. الاتجاه الأول أصرّ على قراءة القمة ضمن إطارها التقليدي: وفودٌ تحضر، وزعاماتٌ تأتي وأخرى تتغيّب، تُلقى كلماتٌ باردة على وجوه متثائبة ناعسة، ثم يصدر بيان ختامي يعيد إنتاج عباراتٍ صاغها وزراء الخارجية بلغة دبلوماسية معتادة. يفوز البلد المضيف برئاسة القمة لعامٍ كامل، مقابل ما أنفقه وتحمّله من أعباء، وينتهي الحدث كما تنتهي “الزفّة العربية” ليومٍ واحد: ضجيج كثير، فعلٌ أقل، وتفاهمات هشّة قابلة للانكسار عند أول اشتباك إعلامي يحركه مهرّج أو مشبوه يعمل وفق أجندة محسوبة.
أما الاتجاه الثاني، فكان يتمنى ويدفع باتجاه عملٍ جديد ومختلف، يُراد منه أن تخلع القمة العربية عباءة التقليدية والرتابة، وتواجه نفسها بأسئلة وقضايا المرحلة الاستراتيجية العالمية في عالم تتقاطع فيه خطوط الطول والعرض السياسية، وتُعاد فيه صياغة الشرق الأوسط ليس بخرائط المقاومة والمساومة، ولا خرائط الطاقة والنفوذ بل بخرائط الذكاء الصناعي واقتصاد المعرفة ومفاهيم التأثير عبر الثروة، والازدهار، والتعليم، والحداثة.
الشرق الأوسط يُعاد بناؤه اليوم وفق معطيات مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، وهي مرحلة المنتصرين والمتراجعين والمنهزمين، ليس عسكريًا فقط، بل على مستوى المفاهيم والرؤى والمستقبل. إسرائيل والولايات المتحدة تتحركان في فضاء مفتوح من المبادرات الجديدة، وتحظيان باستجابة غير مسبوقة تتناغم مع طموحات وخطط من لا يريد أن يتخلّف اقتصاديًا وتقنيًا، ولا أن يُحبس داخل شرانق الفكر السياسي القومي الذي مات منذ نصف قرن.
الدول العربية التي انتهجت نهج التكيف مع المتغيرات العالمية وجدت نفسها متحررة – إلى حد بعيد – من قيود والتزامات فكر جامد يدور في حلقة “المقاومة السلبية”. بعضها ذهب بعيدًا في هذا النهج، وتجاوز “الخطوط الحمر” العربية، متمسكًا بحقه “السيادي”، غير آبه بمن يصنّفونه في خانة المطبعين أو المتراجعين أو المتآمرين.
في المقابل، بقيت دول أخرى متمسكة بمبادئ المشروع القومي بصياغاته الخمسينية والستينية (لاءات الخرطوم في قمة 1967: لا تفاوض، لا سلام، لا تطبيع)، وكانت تُعرف سابقًا بدول “الصمود والتصدي” (العراق، سوريا، ليبيا، اليمن الجنوبي، الجزائر). لكن دارت دورة الزمان، وانتهى هذا الخط إلى مشهد تحكمه جماعات ما دون الدول (Non-state Actors)، تحارب نيابة عن الدولة، وتفرض رؤيتها السياسية والإيديولوجية على عقدها الاجتماعي والسياسي، لتبدأ مرحلة تنافس بين مشروع الدولة التقليدية ومشروع الجماعات الموازية بشعارات تزاحم الدولة على السيادة وتسعى للحلول محلّها.
ثم دخلنا طورًا جديدًا، تمثل في وصول الجماعات السلفية التكفيرية العنيفة إلى مرحلة التفاوض مع “الكفار الأقوياء”، وعقد الصفقات معهم، تحت ذريعة الضرورات الأمنية وبقاء السلطة!
بعد 75 عامًا على تأسيس النظام العربي الحديث، وصل الواقع إلى مرحلة الانحلال وإعادة البناء. أصبح الصراع بين عقليتين: عقلية القرن العشرين، وعقلية القرن الحادي والعشرين. والمشكلة الأكبر تكمن في تأثير اللاوعي السياسي على العقل الجمعي، وهو عقل يساري بطبعاته الثلاث: الإسلاموي، والقومي، والوطني، غير قادر على استيعاب التحولات الكبرى أو التكيف مع الانزياحات الحاصلة. بعض هذا العقل ما زال يطالب القمة – في لحظة حرجة كقمة بغداد – بتكرار سرديات الشجب والإدانة والرفض اللفظي، كتعويض نفسي عن العجز وفقدان الفعل البنّاء.
تنعقد قمة بغداد والعالم يعيش لحظة اندماج للأزمنة المتعددة في “زمن واحد” اذ يقود الرئيس الأميركي نهجًا مبتكرًا لتسوية الأزمات يقوم على إنتاج “السلام” عبر تبادل المصالح المادية في إطار استراتيجية أميركية جديدة تستجيب لفكر “جيل زد” وما بعده، الجيل الذي نشأ مع الطفرات التكنولوجية، وحروب الطائرات المسيّرة وسباقات المعلومات الدقيقة واشباه الموصلات ومنتجيها العمالقة.
نحن في عصر جديد، لا عصر ستالين وروزفلت وتشرشل وآيزنهاور وديغول وماو تسي تونغ وعبدالناصر وسوكارنو، بل في “عصر ترامب” – ترامب الذي يفاوض إيران ويمنحها مهلة محددة بين الدمار والازدهار، وفي الوقت نفسه يفاوض حماس بشروط دون أن يمنحها خيارات واقعية، بعدما أبيدت غزة تقريبًا. ترامب الذي يعرض على روسيا وأوكرانيا سلام تقاسم المعادن النادرة أو الذهاب إلى الجحيم، ويفرض على الحلفاء الرسوم الجمركية، ويجبرهم على الاستثمار في بلاده، واضعًا عينيه على ثروات الشرق الأوسط لتوفير الوظائف لبلاده وتعزيز قوته وازدهاره.
هذا العالم يُعاد بناؤه بـ”محرك ترامبي” (Trumpian Engine)، لحظة “فرعونية” و”قارونية” بمنطق التاريخ، ولحظة تفوّق العلم والمعرفة والثروة والقوة بمنطق الاستراتيجيات العالمية، لا بمنطق التحالفات العسكرية وحدها كما كان في السابق، بل بمنطق التماثل في الرؤية الاقتصادية، والشراكة في سلاسل التوريد وتحمل المسؤولية الأمنية لضمان استقرار الأسواق.
في ظل هذه التحولات الكبرى، يراهن المواطن العربي – المحاصر بأزمات مالية، ومخاطر أمنية، وانعدام الاستقرار – على من يقدّم له رؤية مستقبلية وجرعة أمل، ويقيه اندفاعات المشاعر العاطفية غير المنضبطة. وهذه المهمة تحتاج إلى رؤية مغايرة تستثمر في الفرص المتاحة عالميًا، وتتفادى سياسات التدمير الخارجي والانتحار الذاتي، وتعيد مراجعة منظومة الأفكار والوعي بما يؤهلها للانتقال إلى طور عالمي جديد.
قمة بغداد تملك القدرة على تدشين لحظة عربية مختلفة، بمقاربة الأفكار والمشاريع، لا في السياسة والأمن فقط، بل في إعادة صياغة السردية السياسية العربية، من دول تكافح للبقاء إلى دول تشارك في صياغة النظام العالمي الجديد، وتتجاوز دور “إطفائي الحرائق” في غزة والسودان واليمن وليبيا وسوريا والصومال ولبنان.
إن حرائق العالم العربي ستظل مشتعلة ما دامت لغة السياسة لدينا تقوم على قاعدة المغالبة السلطوية لا الشراكة وتقاسم المنافع .ومالم يع العرب حكاما ومحكومين مفترق الطرق هذا ،فان المستقبل لن يكون مختلفا عن الحاضر الراهن.
أقرأ ايضاً
- قمة بغداد.. حفلة تنكرية على أنقاض وطن
- قمة إجراء لا قمة إنشاء
- مقايضات قمة بغداد: خور عبد الله وميناء الفاو والشرع وأشياء أخرى