- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
العراق بين وهم المحاور وحقيقة المصالح

بقلم: علي مبارك
في ظل التحولات المتسارعة في الإقليم، والتقارب بين بعض القوى المتخاصمة، يقف العراق أمام تحدٍّ مزمن: هل يبني سياسته الخارجية وفق مصالحه الوطنية، أم يظل أسير الانتماء العاطفي للمحاور والتحالفات؟ هذا السؤال بات أكثر إلحاحًا في ظل تصاعد الأزمات وتعقّد العلاقات الدولية، وتنامي الحاجة إلى تموضع مستقل ومتوازن.
بعد القمة العربية الأخيرة، وكما في الكثير من الأحداث السياسية السابقة، يتكرر المشهد ذاته في العراق: تفاعل شعبي حاد، ينقسم بين الرفض المطلق أو القبول المطلق، بين التطبيل والتجميل أو التسخيف والتقليل. والمشكلة الحقيقية أن المواطن العراقي، بحكم تراكم الأزمات والتجارب، أصبح يتعامل مع الأحداث بعاطفة وحسابات مبسطة، حتى في قضايا معقدة كالأمن والسياسة والاقتصاد.
من الطبيعي أن يعبر الشارع بلغة شعبية، وأن ينظر إلى السياسة من زاويته الخاصة. لكن غير الطبيعي أن ينزلق كثير من السياسيين إلى نفس الخطاب الشعبوي، وأن يتخلوا عن منطق الدولة والتحليل الاستراتيجي لصالح الشعارات الطائفية والحزبية.
السياسي، بحكم موقعه، مطالب برؤية أعمق وتحليل واقعي قائم على المصالح الوطنية لا على الاصطفافات الضيقة.
في هذا السياق، ليس من الحكمة الحديث عن “عودة العراق إلى موقعه العربي”، وكأن العراق في موقع آخر ويجب أن يختار بين العرب أو إيران.
العراق بلد متنوع قوميًا ودينيًا واجتماعيًا، ولا يمكن اختزاله بلون واحد. وهو أيضًا جزء من محيط جغرافي معقّد ومتشابك المصالح.
ما يحتاجه العراق اليوم هو الانفتاح على علاقات متوازنة مع إيران وتركيا وسوريا والأردن والكويت والسعودية، باعتبارها دول جوار نتشارك معها ملفات حدودية وأمنية واقتصادية وعشائرية ودينية واجتماعية. ومن ثم يأتي دور العلاقة مع الولايات المتحدة، وكيفية موازنة علاقاتنا مع روسيا والصين ودول الاوربية، من دون أن يتحول العراق إلى ساحة صراع بين هذه القوى.
إن إدارة الملفات الخارجية تتطلب عملًا بشقين متلازمين: سياسي وفني.
أولًا: نحدد مصلحة العراق في كل علاقة خارجية.
ثانيًا: نحدد ما المطلوب تحقيقه من كل علاقة.
ثالثًا: نقيّم ما تحقق فعليًا في كل ملف، ونتعامل معه بمراجعة مستمرة.
إن إقامة المؤتمرات السياسية والأمنية والاستثمارية مهم للعراق كما هو للدول الأخرى، لكن المهم ليس عقد المؤتمر فقط، بل نوع المدخلات والمخرجات، وتطبيقها على أرض الواقع. فنجاح المؤتمر قد يبدو إعلاميًا، لكنه لا يحقق نتائج فعلية ما لم يكن هناك توافق سياسي داخلي، ولو بحده الأدنى، حول شكل وهوية السياسة الخارجية العراقية.
المشكلة الكبرى أن مواقف العراق تجاه القضايا الإقليمية كثيرًا ما تصدر بشكل مزدوج: الحكومة تؤيد، وكتل برلمانية ترفض، فتظهر الدولة بموقفين رسميين متضاربين.
وهذا يُضعف ثقة الأطراف الدولية بالعراق، ويعقّد إمكانية الوصول إلى اتفاقات طويلة الأمد.
من الأمثلة الواضحة على فشل السياسة الخارجية العراقية: الموقف من النظام السوري بعد عام 2011. فقد ظهر العراق حينها بمواقف رسمية متعددة، من دون تحديد نوع العلاقة التي يحتاجها مع سوريا الجديدة، ولا التموضع الذي يخدم المصلحة الوطنية العراقية.
الملفات الكبرى – مثل الحدود مع الكويت أو المياه مع تركيا – لا تُحل بالشعارات أو العنتريات الإعلامية، بل تُعالج بالاستراتيجية السياسية، والاتفاقيات، والمعاهدات، والمصالح المتبادلة. فالقوانين الدولية لا تعمل تلقائيًا، بل تُفعَّل عندما تكون الإرادة السياسية حاضرة.
أما الرهان على المحاور، فهو رهان خاسر، فتسويق العراق كـ”بديل عربي عن إيران”، أو “امتداد لإيران بدل العرب”، أو “واجهة تركية”.. كلها أوهام سياسية لا تصمد أمام الواقع. بل حتى محاولة الجمع بين هذه المحاور، من دون رؤية لعلاقة العراق بالقوى الكبرى كأميركا وروسيا والصين، هو وهم أكبر.
التركيبة العراقية، جغرافيًا واجتماعيًا وأيديولوجيًا، لا تسمح بأن يكون العراق جزءًا من أي محور مغلق.
خاتمة: نحو سياسة عراقية متحررة من العقد
ما يحتاجه العراق ليس الانحياز لمحور ضد آخر، بل تبني سياسة خارجية تشبه سياسات سلطنة عمان أو قطر أو تركيا: علاقات متوازنة مع الجميع، حتى بين الأطراف المتخاصمة، انطلاقًا من مصلحة الدولة، لا المجاملة أو الاصطفاف.
لا انحياز مجاني، ولا عداوة مجانية، فالسياسة ليست ساحة شعارات، بل فن تحقيق المصالح. وحيثما تكمن مصلحة العراق، يجب أن يُبنى الموقف.
أقرأ ايضاً
- العقل الصامت والصوت الصاخب: كيف اختُطفت الساحة العراقية من الجهلاء؟
- انقطاع الكهرباء في العراق.. عندما تمنع الضغوط الأمريكية حل المشكلة
- "مذكرات التفاهم" هل تلبي متطلبات التطور وتؤمن احتياجات العراقيين؟