- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
معضلة القنفذ.. حين تؤذي الأشواك حلم الوطن

بقلم: كريم محسن
في ليلةٍ باردة من شتاء السياسة العراقية، تتحلّق القوى المدنية حول فكرة الوطن، تحاول أن تتقارب، أن تتدفأ بمشروع مشترك، أن تبني تحالفًا طويل النفس يقاوم العزلة والتيه. لكنها، ما إن تقترب، حتى تتنافر. ليس لأن الفكرة ضعيفة، بل لأن الأشواك كثيرة.
تُشبه القوى المدنية العراقية في سلوكها السياسي ما يُعرف في الفلسفة بـ”معضلة القنفذ”، وهي استعارة قديمة طرحها شوبنهاور لاحقًا تبنّاها فرويد في علم النفس. القصة تقول إن مجموعة من القنافذ حاولت التقارب في ليلة شديدة البرد كي تتدفأ، لكنها كلما اقتربت وخزت بعضها البعض بأشواكها، فاضطرت للابتعاد، ثم شعرت بالبرد فعادت للاقتراب.. وهكذا في حلقة أزلية من الحاجة إلى القرب والخوف من الأذى.
وهكذا هو حال القوى المدنية: تتقارب عند الحاجة، عند اشتداد برودة المرحلة، عند اشتعال الغضب الشعبي أو اقتراب الانتخابات، لكنها ما تلبث أن تتناثر بعد أول اصطدام بالمصالح، أو أول خلاف على من يتصدر المشهد، أو أول خلاف على توقيع بيان. في كل مرة يتشكل تحالف مدني، يُكتب له عمرٌ قصير، وكأنه مصمم فقط لعبور لحظة انتخابية، لا لولادة مشروع وطني دائم.
الأشواك هنا ليست أسطورية، بل ملموسة: اختلاف في الرؤى، غياب القيادة الجامعة، توجس مزمن من التمثيل غير العادل، خوف من الذوبان داخل الكتل الأكبر، صراعات على “من يمثل من”، وانعدام الثقة الناتج عن تجارب سابقة مريرة. كل هذه العوامل تحوّلت إلى جدران نفسية تمنع تكوّن تحالف مدني متماسك وطويل الأمد.
إن القوى المدنية العراقية لم تفشل لأنها بلا أفكار، أو لأن جمهورها صغير، بل لأنها لم تطوّر بعد آليات إنتاج الثقة السياسية. ما زالت تتعامل مع الاختلاف كتهديد، لا كتنوع. وما زالت تميل إلى الاصطفاف الموسمي، لا إلى بناء مشروع جماعي يتخطى الأسماء والتسميات.
هذا الفشل لا ينفصل عن الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي، حيث التجارب السياسية غالبًا ما تُختصر في لحظات انكسار وخيانة وغدر. حتى بين المدنيين، بقي الخوف من “الخنجر في الظهر” حاضراً، يُترجم على شكل تحفظ، وتردد، وتحالفات مرتابة. لذا، لم يكن غريبًا أن نرى التحالفات المدنية تتشكل في آخر لحظة، وتتفكك في أول امتحان.
لكن، هل الحل أن نستسلم للبرد؟ أن نقبل العزلة؟ أن نعيش متفرقين بدعوى حماية الذات؟ الجواب، كما تعلم القنافذ، لا. بل يكمن في فنّ إدارة الأشواك: وضع قواعد واضحة للعمل المشترك، الاتفاق على الأهداف لا الأشخاص، اعتماد الشفافية بدل الشك، والاحتكام إلى مؤسسات لا مزاجيات. فقط حين تفهم القوى المدنية أن القرب لا يعني الذوبان، وأن الاختلاف لا يعني الخيانة، يمكن لها أن تبني تحالفًا دافئًا لا ينكسر مع أول نسمة برد.
السياسة ليست مكانًا للملائكة، لكنها أيضًا ليست مستنقعًا دائمًا. ما زال في العراق جمهور يتوق للتغيير، وكتل شبابية تنتظر من يحمل همّها ويعبّر عنها، ومساحات فارغة تبحث عمّن يملأها بفكرة وطن. هذا الجمهور لن ينتظر طويلًا قنافذ تتردد في الاقتراب. فإما أن تتعلم كيف تتقارب دون أن تجرح، أو أن تُترك وحيدة في زاوية النسيان، تتفرج على الآخرين يصوغون مصير البلاد، وإن كان بأسوأ الأدوات.
مثلنا العراقي يقول: “اللي يريد الحِلو، يصبر على مره”، وربما حان الوقت للقوى المدنية أن تتحمل مرّ العمل الجماعي، وصعوبة بناء التحالفات، إن كانت فعلاً تريد طعم النصر، لا وهم النقاء.