- مقالات
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الوكالة، وإنما تعبر عن رأي صاحبها
فتوى الجهاد الكفائي وآثارها الإصلاحية على الأفراد

بقلم:مصطفى الفتلاوي
لم تكن فتوى الجهاد الكفائي التي صدرت عن المرجعية العليا في حزيران عام 2014م، حدثًا عابرًا وقرارًا سهلًا وقراءةً سطحيّةً، بل حدثًا مفصليًّا وقرارًا مصيريًّا وقراءة عميقة ومدركة.
فالظروف التي صدرت بها تلك الفتوى كانت أقل ما يقال عنها بأنها انهيار تامّ أصاب كلّ مفاصل الحياة في بلد متعب ومنهك مثل العراق يكافح باستمرار ضدّ الإرهاب منذ عام (2003) م، ويعاني شعبه الويلات ويعيش الموت والمأساة بشكل يومي.
لقد كانت للفتوى آثارً عظيمة وأصداء مدوية برزت وتجلت بشكل واضح في استعادة الثقة ورفع المعنويات عقب انهيارها تمامًا، لذا ارتفع منسوب التعبئة في كل الجوانب إلى أعلى مستوى له حتى تحقّق النصر المبين على العدو الداعشي بعد حرب ضروس ما تزال تبعاتها مستمرة إلى اليوم.
وممّا لا شكّ فيه أن الفتوى قد صدرت في لحظة مصيرية وحاسمة قلبت فيها الموازين في منعطف بالغ الخطورة، فقلبت حالة الإحباط إلى تفاؤل، واليأس إلى أمل، والضعف إلى قوة، والتراجع إلى تقدّم ونفير عام، والخوف إلى اطمئنان عند الجماهير التي اندفعت نحو الجبهات كالسيل العارم امتثالًا لفتوى المرجعية.
لقد كانت الأبعاد العسكرية والسياسية للفتوى هي أكثر المواضع التي ركّز عليها الباحثون والكتّاب والإعلام ولقد أخذت حيزًا كبيرًا في البحث والدارسة والتأليف، وهذا أمر طبيعي باعتبارهما أهمّ آثار الفتوى، وكانت تجلياتهم واضحة لا لبس فيها في الميدان.
غير أن هنالك آثارًا وأبعادًا لم تأخذ حقّها من الدارسة، ولم يسلط عليها الضوء إلى الآن وهي لا تقل أهمية عن غيرها من الآثار الأخرى.
ففي موقف نقله لي أحد طلبة الحوزة العلمية من الذين لبوا نداء الفتوى في أيامها الأولى إذ ذهب للتبليغ والتوجيه الديني مع المتطوّعين في معسكر داخل مطار المثنى العسكريّ وهذا نصّه: (إنّ أحد الشباب المتطوعين كان عمره ستة عشر سنة قال لي بعد الصلاة: شيخنا أريدك في مسالة ما، فقال لي إنه لا يوجد ذنب أو قبيح لم يقترفه في حياته بهذا العمر الصغير -والكلام كان يخرج من أعماق قلبه- وأضاف: أنا الان تأثرت بهذه الفتوى وأريد أن أتوب، ويقول الشيخ: كنت أنظر إلى هذا الشاب ووجه كأنه ممسوخ من الذنوب، ولكنه كان يتكلم بحرقة، فقلت له: إنّ الله تعالى فتح لك الأبواب وأحد هذه الأبواب للتوبة هي هذه الفتوى) .
ومن هذا الموقف المهم والمؤثّر يمكن لنا أن نقول إنّ الفتوى المباركة لم تقتصر على التعبئة وتحقيق النصر العسكري على العدو الإرهابي، بل إنّها كانت نقطة تحوّل ومفترق طرق في حياة الكثير من الناس، ولا سيما الشباب الذين بفضل هذه الفتوى تغيرت حياتهم وانتقلت من مرحلة إلى أخرى، وهذا ما يمكن أن نسميه بالأثر الإصلاحي أو الإيماني للفتوى على الناس، الذي يغيب عن أذهان كثير من الناس ممن لم يشهدوا ساحة المعركة، ويعشوا المواقف مع المتطوّعين، وهنا اقتبس كلام الشيخ نفسه: ((فالفتوى واقعًا كانت بابًا لتغير الأنفس نحو الطاعة والتوبة، فالكثير من الناس تغيروا من ساحة المعصية إلى ساحة الطاعة بفضل هذه الفتوى ووصل الأمر بهم إلى أن يجودوا بأنفسهم امتثالًا للفتوى))
وهذا الشاب ربما كان من بين كثير من الشباب الذين تأثروا بالفتوى وأثرت فيه فغيرت طريقه واهتدى بفضلها في لحظة وحدث استثنائي لا يتكرر إلا نادرًا.
وإن إمعان النظر في هذه القصة القصيرة يجد فيها كمية من الحضور والاستعداد الروحي الكبير؛ فشخص مثل هذا الشاب كان بإمكانه أن يصم أذنيه عن الفتوى ويبقي على شبابه ولهوه ولعبه، إلا أنه وجد في الفتوى الملتجأ للخلاص مما هو فيه، فضلا عن أنه وجد فيها المغتسل الحقيقي من ذنوبه ومما اقترفه في سنينة الفائتات، زيادة على ذلك حمله لتلك الروح العظيمة التي زهد فيها من أجل أن يكون في صف الحق ويلتحق بالشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وليس هذا بالأمر الغريب والعجيب فالفطرة السليمة تبقى كامنة في الإنسان ولكنها تحتاج إلى فرصة مواتية وإرادة صلبة، لكي يعود الأنسان إليها فتستجيب تلك الفطرة إلى دعوة الهداية الصادقة فتنقاد لها بكل سرعة، فكثير من المقاتلين أسهمت الفتوى بتقوية إيمانهم وزادت من تمسكهم بدينهم، وبفضلها تعلموا فقه دينهم وضبطوا أحكام صلاتهم وعبادتهم من طريق طلبة الحوزة والمعتمدين الذين شاركوا في الجهاد كمقاتلين ومبلّغين.
وأيضًا لا عجب ولا استغراب كيف أن أناسًا لم يسبق أن عُرف عنهم الالتزام الديني والتقوى أن ينبروا للجهاد ويستجيبوا لفتوى مرجع دينيّ، فالمتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى أن هؤلاء أناس بعيدون عن هكذا أمور ولكن عند الرجوع إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام) سنجد أن لهذا الموضوع أصل فيها، ففي إحدى الروايات الواردة عن المعصوم قوله (عليه السلام): (إنّ الله عزّ وجل ينصر هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم) ومعنى ذلك أنّ هؤلاء الناس لا نصيب لهم من الخير والدين والتقوى والحظ والخلاق هو كناية عن الإنسان الذي لا خير فيه ، إلّا أنّ مثل هذا الانسان لا يخلو من الفطرة السليمة، ولكنه لا يستفيق من سباته الطويل في ظروف طبيعية وأحداث عادية، وإنما قد تستفزه الظروف الاستثنائية والأمور العظام فتستجيب فطرته الصالحة لتلك المتغيرات فتظهر شخصية مختلفة تمامًا وفي التاريخ شواهد كثيرة على ذلك .
فالفتوى كانت منعطفًا خطيرًا ونقطة تحوّل كبير في حياة أشخاص كثيرين، وهنا أعود واقتبس من كلام الشيخ مرة أخرى ((ففتوى عن مرجع قلبت الموازين بهذه الطريقة فكيف لو صدرت هذه الفتوى عن الإمام المعصوم؟))
فالفتوى أمست حدثًا مهمًّا ليس في تاريخ العراق فحسب سياسيًا وعسكريًا واجتماعيًا وإنّما أضحت بابًا للتوبة لنفوس غرقت بالجهل والمعصية، فجاءتها الفتوى بمثابة نعمة لها لكي تلتمس بها طريق النور وحسن العاقبة، فمن ذهب للجهاد وهو لا يصلي مطلقًا، عاد منها أو استشهد أو جرح وهو تائب مؤدٍ لفرائض دينه، وهذا الأثر لم يكن في حسبان كثير من الذين لم يكن همهم سوى دحر العدو وتحقيق النصر عليه.
ولقد أسهم وجود رجال الدين من معتمدي المرجعية وطلبة الحوزة العلمية في الميدان -مبلغين ومقاتلين- في تحقيق هذا الأثر الإيماني الكبير فهم كانوا يد المرجعية وصوتها مع المقاتلين،
فالفتوى ستبقى تحمل في طياتها كثيرًا من الآثار والمعاني والقصص التي تحتاج منّا الوقوف عندها والتأمل فيها؛ لنكتشف منها العديد من المعاني والعبر الشخصية والعامة، فهي حدث لا يتكرّر بسهولة.
أقرأ ايضاً
- الإبلاغ الرقمي عن المخالفات: تأثير المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي على بدء الملاحقات الجنائية.
- على ذكر اعدادية الكاظمية ...من ذاكرتي سنة 1981
- التعذيب في السجون: تحليل قانوني لأثره على حقوق الإنسان