
بقلم: القاضي علي عبد اليمه جعفر
لا يخلو مجتمع من المجتمعات من واحدة أو اكثر أو كل, من الحتميات المؤسفة، الفقر, المرض، الحرب, الجريمة, فلابد أن نؤمن بحقيقة وهي من غير الممكن أن نمنع تماما من وقوع هذه الحتميات لاسيما الجريمة فمن المتعذر ذلك، ولكن من الممكن الحد أو التخفيض من وقوعها باتباع مناهج وقائية معينة وبذلك تتفاوت نسبة ارتكابها من مجتمع إلى آخر تبعا للمناهج والسياسات الوقائية المتبعة, والتي يجب ان تركز مهما اختلفت أشكالها على الدوافع المحركة للسلوك والعمل على تطويعها وجعلها من دوافع سلبية إلى دوافع إيجابية نافعة للفرد والمجتمع، اذ لا سلوك بدون دافع فهو القوة النفسية التي بنيت عليها النية الموجهة للإرادة، حيث تنقسم دوافع السلوك من الناحية النفسية الى دوافع فطرية كدافع العطش والجوع، ودوافع مكتسبة كالدوافع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وأيا كان نوع الدافع فطريا ام مكتسبا، فانه يكون سببا مع غيره من الأسباب الاخرى في ارتكاب السلوك الإجرامي اذا لم يتم اشباعه بشكل مشروع، ولكن ماهي الكيفية التي يمكن من خلالها تطويع الدوافع وجعلها من سلبية تفضي الى السلوك الاجرامي، الى دوافع إيجابية نافعة، هذا ما نجده في التنمية الذاتية التي هي جزء من التنمية البشرية، فهي فعالة في مختلف بيئات العدالة الجنائية، سواء في المؤسسات الإصلاحية او في المجتمع، من خلال تحسين المهارات الاجتماعية، وحل المشكلات، والتفكير النقدي, والأسلوب المعرفي, وضبط النفس, وإدارة الدوافع، والكفاءة الذاتية, فالمفترض ان اغلب الأشخاص قادرون على ادراك أفكارهم وسلوكياتهم ومن ثم اجراء تغييرات إيجابية عليها، فالتنمية بمفهومها العام تعني الزيادة والرقي والتطور السريع التراكمي عبر فترة زمنية في الموارد والمهارات نتيجة استخدام الجهود العلمية المشتركة.
وتنمية الذات من المفاهيم الضرورية والمهمة في تحقيق النجاح المرتبط بطموح الإنسان الإيجابي ويركز على اكتشاف قدرات ومهارات الإنسان، ولهذا تعد التنمية الذاتية هي محور التنمية البشرية وان الموارد المادية وحدها غير قادرة على تحقيق التقدم والنمو في شتى ميادين الحياة الاجتماعية، ولكن ذات الإنسان هي المحرك الحقيقي الذي يملك القدرة على توظيف هذه الموارد والامكانات توظيفا صحيحا بما يعود مرة اخرى على الإنسان.
وللتنمية البشرية جانبان الأول وهو تكوين القدرات البشرية، مثل تحسين المستوى الصحي والمعرفي وتطوير المهارات، والثاني وهو استفادة المجتمع من هذه القدرات المكتسبة في العمل المنتج, والحركة الاجتماعية والسياسية والنشاط الثقافي والترفيهي. فحينما نجد هنالك تخلفاً, وان هنالك موارد نقص في ظروف الحياة التي يجب ان تتوافر، فان علينا ان نهتم بالتفكير في تحسين أوضاعنا وظروفنا بما يحد او يخفض من انحراف السلوك كحد ادنى، ولكن من هو المسؤول عن تحقيق ذلك؟ يعتقد الكثير منا ان المسؤولية تقع حصرا على عاتق الحكومة التي تملك التصرف في الثروات الوطنية، فهي المعنية مباشرة بتنمية المجتمع، ومع التسليم بهذه المقدمة، فالحكومة تتحمل الدور الأساس والرئيس في هذا المجال, ولكن لا يمكن بحال إغفال دور الفرد والشعب في حض الحكومة من اجل وضع السياسة التنموية الصحيحة، وهذا لا يتأتى مالم تكن هناك تنمية ذاتية سابقة، فللأفراد والشعوب دور اساس في تحقيق التنمية والرقي من خلال فاعليتها ونشاطها وعطائها، ولذلك اشارت مختلف التقارير الى اهمية الدور الايجابي الذي يؤديه الناشطون ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاهلية في التنمية، فلا يصح اعتبار انفسنا في معزل عن تحمل المسؤولية بدعوى ان الحكومة لم تتحرك لفعل الشيء المطلوب. فيجب ان نفكر في تنمية ذاتنا وان نهتم بها من اجل ان نساعد انفسنا ونحسن اوضاعنا ونرتقي من خلالها بمستوى مجتمعنا، وذلك من خلال انتاج ونشر ثقافة التنمية الذاتية فكما للتنمية ثقافتها كذلك للتواكل والخمول ثقافته, بل نلاحظ انتشار النوع الثاني من الثقافة في اوساطنا, فما أحوج مجتمعنا الى ثقافة حية تفتح أمام الناس آفاق الطموح والتطلع في هذه الحياة، وتزيح الحواجز المانعة من الانطلاق والعمل، تدفع كل فرد فيه الى تفجير طاقته، وان يعمل ما بوسعه من اجل تحسين وضعه الشخصي، والمساعدة في تحسين أوضاع الآخرين, ولعل احدى المشكلات الغريبة، حين نجد ان البعض لا يهمه السعي نحو تحمل المسؤولية تجاه ذاته، فضلا عن سعيه نحو تحمل المسؤولية تجاه الآخرين، فتجده يعيش الفقر ويستسلم له، ويعيش البطالة ويخضع لها، ويعيش الجهل ولا يسعى لمواصلة التعليم وكسب المعرفة، والأسوأ في ثقافة الخمول هو تشويه بعض جوانب الثقافة الدينية من خلال الطرح المجانب للصواب ليكون الدين بالنهاية في خدمة حالة الخمول والتقاعس, وذلك من خلال تزهيد الناس في الحياة الدنيا إغفالا عن كونها مقدمة للأخرة فمن كان عاجزا في دنياه فهو عن اخرته اعجز, وان من لا معاش له لا معاد له، فضلا عن تثبيط العزائم واشعار عدم الجدوى لدى البعض تجاه كل من يقدم على انشاء اي مشروع ما, ولا نستغرب من كون التنمية الذاتية ودورها في الحد من انحراف السلوك هي وليدة الثقافة الاسلامية، فالموروث الإسلامي يحدثنا عن التجربة التطبيقية للتنمية الذاتية التي انتهجها الإمام علي (عليه السلام)، اذ نجده مهموماً بتطوير حياة ابناء المجتمع، وتنميتها في مختلف المجالات مستهدفا من ذلك اسعاد الانسان وتفجير طاقاته وكفاءته، ليتمتع بحياة كريمة ويتجه الى الفاعلية والانتاج، فيشجع ابناء مجتمعه على الادلاء بآرائهم بقوله (( فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة, ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة -اي عند اهل الغضب- ولا تخالطوني بالمطالعة – اي بالمجاملة- ولا تظنوا بي استثقالاً في حق قيل لي ...) كما يظهر اهتمامه بالتنمية الاقتصادية وتوفير حاجات الناس والقضاء على حالة الفقر من قوله (ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق الى مصفى هذا العسل ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي, ويقودني جشعي الى تخيّر الاطعمة ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع) ودعوته للعمل التطوعي وما تقوم به منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاهلية في الوقت الحاضر، والاستقامة في السلوك (اوصيكما بتقوى الله، ولا تبغيا الدنيا وان بغتكما, ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما, وكونا للظالم خصماً, وللمظلوم عوناً، اوصيكما وجميع ولدي ومن بلغه كتابي بتقوى الله،ونظم امركم, وصلاح ذات بينكم, فأني سمعتُ جدكما يقول صلاح ذات البين افضلُ من عامة الصلاة والصيام، الله الله في الايتام, فلا تُغبّواافواههُم, ولا يضيعوا بحضرتكم ...) وتوجيه الولاة والموظفين في الدولة في خدمة التنمية واشهرها عهده لوالي مصر(واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطُف بهم, ولا تكون عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم, فأنهم صنفان: اما اخ لك في الدين, واما نظير لك في الخلق ) وتوجيهه الى استصلاح امور البلاد وعمارتها ( واستصلاح اهلها وعمارة بلادها ... وليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج...) واشارته الى دور كل طبقة من طبقات المجتمع ( واعلم ان الرعية طبقاتٌ لا يصلح بعضها الا ببعض ولا غنى ببعضها عن بعض ... ثم انظر في امور عمالك فاستعملهم اختبارا ولا تولهم محاباة وأثرةٌ... ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين واهل البؤسى والزمنى...) وتوجيهه في ادارة الوقت (ان الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما... ان أوقاتك أجزاء عمرك فلا تنفذ لك وقتاً الا فيما يُنجيك ) وما ورد في هذا المجال عن الموروث الإسلامي ( اجتهدوا في ان يكون زمانكم اربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش, وساعة لمعاشرة الإخوان والثقاة الذين يعرفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذاتكم في غير محرم) ونستنتج من ذلك انه وضع لأبناء مجتمعه برنامج يستلهمون منه الرؤية في انجاز التنمية.
أقرأ ايضاً
- الاحتفال بالجلاد: كيف تُكرَّم الجريمة في العراق؟
- المكياج بلا حدود: ظاهرة متنامية تُقلق القيم وتُنهك الذات
- تأثير التحول الرقمي على الجريمة المنظمة: التحديات القانونية الواجب مواجهتها