
بقلم: القاضي ناصر عمران
للقوانين أخلاقياتها التي تتمثل بتحقيقها للعدالة، والعدالة فضيلتها المستقرة في الضمير الانساني والرحمة ديدنها في مساحات التطبيق فاذا تلاشت ابتعدت القوانين عن صناعة العدالة وصارت صناعة للمجرمين كما يراه (فكتور هيغو) في روايته الخالدة (البؤساء).
منذ زمن طويل والقوانين الجنائية هي القوانين الأكثر استئثارا بمنظومة الضبط الاجتماعي وتحقيقا للردع العام والخاص ضمن فلسفة تتبناها السلطة في سياستها الجزائية، لذلك تسير هذه القوانين على محدد قانوني لا تغادره وتلوذ به كلما استدعتها الحاجة لذلك، فلا عقوبة الا بمواجهة جريمة ولا جريمة الا بنص او قانون، فالسلوك الفردي ضمن المناخ الاجتماعي محكوم بقيود فلا اباحة وحرية مطلقة وانما ضابط قانوني يحدد الافعال المجرمة وبالمقابل يضع لها العقاب ولا يأتي ذلك الا من خلال خطاب يوجهه المشرع الى المخاطبين بأحكامه يضع لهم ضوابط السلوك المجتمعي المجرمة تاركاً الاباحة ضمن متناولها العام منطلقاً من فلسفة يؤمن بها يحدد فيها مساحات الحرية ويضع قيود تفرضها المصلحة المحمية التي اضفى عليه القانون حمايته ولوح بالعقاب جزاءً لمن ينتهك هذه المصلحة.
وبعد ان يستقر الخطاب لا يجد المخاطبون مندوحة او عذرا بمواجهة العقاب المقرر على من يقوم بانتهاك بالتجاوز عليها وبالتالي مخالفة القانون، فالحماية التي تحتمي فيها المصلحة هي النص القانوني وكل ذلك ضمن سياسة تلجأ اليها الدولة التي تمتلك حق التجريم والعقاب بعد ان فوضها الأفراد السلطة العامة في تنظيم المجتمع، فالقانون في ابسط تعريف مجموعة من القواعد القانونية التي تنظم علاقات الافراد فيما بينهم او بين الافراد والدولة ، وان المصالح المتعارضة التي اوجدها ديدن الحياة في صراعه الازلي بحاجة الى ضابط أو رادع لحماية الطرف الضعيف من تغول الطرف الاقوى فوجود هذه السلطة المهيمنة يحقق التوازن بين المصالح وبالتالي ينعكس على تنظيم سليم للعلاقات بين الأفراد.
ولان سياسة التجريم والعقاب يترتب عليها أخطر العواقب على الحرية الفردية ، فلابد من ايجاد منظومات وضوابط دقيقة ومتكاملة دستوريا وقانونيا تقيد المشرع وتلجم مساحات ممارسته لسلطاته في التجريم والعقاب، فالعقاب وسيلة السلطة العامة لاستتباب الأمن والسلام ولكن ليس بالصورة التي يطلق فيها العنان لفرض العقاب وإنما يتم ذلك من خلال محددات مهمة في ضوء ذلك.
لقد ظهر مصطلح الإغراق العقابي وهو مصطلح يُستخدمه الفقه القانوني والنقد التشريعي، ويشير إلى المبالغة في دفع الأفعال من الاباحة الى التجريم وفرض عقوبات قاسية عليها، دون مراعاة التناسب بين الفعل والعقوبة ويتمثل الإغراق العقابي بمجموعة من الصور والاشكال التي اهمها تجريم افعال ذات طابع مدني او اداري مثل تحويل المخالفات بسيطة إلى جرائم جزائية. والتوسع في التجريم دون مبررات أو ضرورات موجبة : فوجود نصوص كثيرة تُعاقب على أفعال متقاربة وتشديد العقوبات بشكل غير متناسب على أفعال لا تُشكل خطرًا حقيقيًا على النظام العام من اهم صوره اضافة الى تعدد العقوبات على الفعل الواحد وفرض أكثر من عقوبة بنفس الوقت دون مبرر قانوني وهذه الاشكال والصور أنتجت آثارا عديدة اهمها إضعاف هيبة القانون لأن الناس تفقد الثقة بفاعلية النص القانونية وتحقيق العدالة اضافة الى اثارها بزيادة العبء على الجهاز القضائي ودوائر الاصلاح والسجون. وتحويل القانون الجنائي إلى أداة ردع قاسية بدل أن يكون وسيلة إصلاح واهدار لمبدأ التناسب بين الجريمة والعقوبة وهو مبدأ تسير عليه معظم الانظمة القانونية.
اما معالجة الاسترسال السهل في التجريم الإغراق العقابي فيأتي من خلال إعادة النظر بالتشريعات وتنقيحها. وتمييز ما هو جنائي عن ما هو إداري أو مدني وتطبيق مبدأ "التجريم بقدر الضرورة" واستخدام بدائل العقوبة (مثل الغرامات، أو الخدمة المجتمعية) ومنح معالجة حالات المخالفات البسيطة من قبل السلطات التنفيذية دون الحاجة الى اشغال القضاء بذلك وتطبيق مبدأ تقييد التدخل العقابي بالحد الادنى بوصفة احد موجهات السياسة العقابية والذي يحفظ للقانون الجنائي مكانته وحدوده وعدم الزج به كأداة عقابية في الصراعات الاجتماعية وبغض النظر عن طبيعة النتائج التي تترتب عليه. في ضوء تخطيط سليم وعال المستوى في ضبط ايقاع مستوى الظاهرة الاجرامية وفي حدودها المقبولة.