
لا يعرف الرصاص العشوائي الذي يطلق في العراق طريقه دائماً، سواء كان ابتهاجاً بعرس، أم حزناً في جنازة، أم حتى خلال صراع عشائري، مخترقاً جسد إنسان لا علاقة له بما يجري، لتتكرر عاماً بعد آخر الحكايات ذاتها بأسماء مختلفة، حيث يسقط ضحايا بلا مقدمات، فقط لأنهم كانوا في المكان والتوقيت الخطأ.
كان حسين عباس (42 سنة) يجلس رفقة عائلته في حديقة منزله بقرية صغيرة شمال العاصمة بغداد، حين شعر بشيء يخترق كتفه، ويشرح تفاصيل الحادثة التي لن ينساها أبداً: "كان الجو هادئاً، فلا صوت ولا مناسبة قريبة، وفجأة شعرت بألم حاد، وكأن شيئاً احترق في كتفي. لم أفهم ما جرى إلا حين رأيت الدم يسيل، وأدركت أنها رصاصة طائشة".
يتابع عباس: "في المستشفى أكد الطبيب أنها رصاصة، ويبدو أنها أُطلقت من مكان بعيد. أجريت لي عملية جراحية، وتم استخراجها، الحمد لله نجوت، لكن حتى الآن لا أعرف من أطلقها، ولا ما المناسبة. كل ما أتمناه أن أعيش في بلد لا يُطلق فيه الرصاص إلا في ميادين الحرب أو التدريب، لا في الأفراح ولا في المآتم".
لم تعد هذه الحوادث نادرة، فبحسب تقارير طبية وأمنية، تستقبل المستشفيات العراقية باستمرار أعداداً من الإصابات الناتجة عن الرصاص العشوائي، وبعضها ينتهي بالموت، خصوصاً إذا كانت الإصابة في الرأس أو الصدر.
ويذكر الطبيب محمد العيساوي، أن بعض المناسبات تشهد عدداً كبيراً من المصابين بالرصاص الطائش، مثل مناسبات فوز منتخب كرة القدم، أو رأس السنة الميلادية، ويصل عدد الإصابات أحياناً إلى العشرات.
يستعيد سعدون جلوب (46 سنة)، ذكرى أليمة حصلت قبل أكثر من عامين قائلاً: "كنا في تشييع جنازة عمي بإحدى قرى محافظة ذي قار، ووسط الحزن، بدأ بعض الشباب بإطلاق الرصاص في الهواء، كما هي العادة، فجأة سقطت أرضاً بعدما شعرت بضربة قوية في يدي. علمت لاحقاً أن الرصاصة أطلقها أحد الموجودين معنا، لكنها انطلقت في مسار خاطئ، والأمر لم يتوقف عندي، فأحد أقاربي سقط قتيلاً بعد أن اخترقت رصاصة صدره".
يضيف بحزن: "تحول العزاء إلى مأتم مضاعف، وخسرنا شاباً في مقتبل العمر بلا ذنب. لا أحد يُحاسب، فقط نقول قضاء وقدر، ويمضي كل شيء. لا أريد أن يسقط أحد من عائلتي مجدداً بسبب رصاصة بلا هدف"، مستعيداً صورة قريبه الراحل الذي يقول عنه "كان رفيق طفولتي".
ويُعد إطلاق العيارات النارية العشوائية جريمة يعاقب عليها القانون العراقي، ويوضح المحامي عمر حسين أن "المادة 24 من قانون الأسلحة الصادر سنة 2017، تنص على معاقبة كل من يطلق العيارات النارية في المناسبات العامة والخاصة بالحبس مدة لا تقل عن سنة، مع غرامة مالية". لكنه يستدرك قائلاً: "رغم وجود هذا النص، لكن التنفيذ ضعيف، وغالباً لا يتم التعرف على الجاني، لأن الرصاصة تأتي من مكان مجهول، ويصعب إثبات الفاعل، فينتهي الأمر بلا عقوبة".
ويرى حسين أن غياب الردع الفعلي والتسامح الاجتماعي مع هذه الظاهرة هو ما يجعلها تتكرر، لافتاً إلى أنه "في الكثير من الحالات، يكون الفاعل معروفاً، لكن يتم حل الأمر عشائرياً، أو يُغض الطرف عنه بداعي عدم تعكير صفو المناسبة".
من جهته، يؤكد الشيخ جاسم الشمري، أحد وجهاء العشائر في محافظة كربلاء، أن عدداً كبيراً من زعماء القبائل أصدروا قرارات صارمة بمنع إطلاق النار في كل المناسبات. ويقول: "ألزمنا أنفسنا في مجلس شيوخ العشائر وأفرادنا بعدم إطلاق النار، ومنعنا حدوث ذلك في الأعراس أو الجنازات. لكن الواقع يقول إن السيطرة على كل الشباب أمر شبه مستحيل".
ويضيف: "في لحظات الانفعال، سواء فرح أو حزن، يفقد البعض السيطرة، ويرى في إطلاق النار تعبيراً عن مشاعره. وهناك من يجرب سلاحه في المزارع أو المناطق المفتوحة، فيطلق النار في الهواء من دون تفكير بالعواقب".
ويلفت إلى أن "الصراعات العشائرية في بعض المحافظات الجنوبية تتحول إلى معارك مسلحة، ويُستخدم فيها السلاح المتوسط أحياناً، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا، من بينهم أحياناً من لا علاقة لهم بالنزاع أصلاً".
يشير الواقع إلى أن الرصاص الطائش أصبح جزءاً من يوميات العراقيين، ولا سيما في المناسبات التي تُفترض أن تكون للتعبير عن الفرح أو الحزن، لكنها تتحول إلى مأساة لأسر أخرى، وبين تقصيرِِ أمني، وتراخٍ اجتماعي، وضعف في تنفيذ القانون، تبقى دماء الأبرياء مهددة في كل لحظة.
المصدر: العربي الجديد
أقرأ ايضاً
- 20 ساعة بلا كهرباء.. تشاؤم أمريكي لصيف العراقيين
- 20 ساعة بلا كهرباء.. تشاؤم أمريكي لصيف العراقيين
- مطامر نفايات غير قانونية تهدد حياة العراقيين